الحكاية الشعبية تراث عربي يجفّ وأدب يُجهض

27 نوفمبر 2014
رفدت الحكاية الشعبية العربية الأدب والفنون العالمية(Getty)
+ الخط -
كانت الحكاية الشعبية نواة أدب الأطفال، حتى قبل أن يتبلور مفهوم "الطفولة"، وتتكوّن عناصر عالمه من فنون وآداب وتربية وتعليم وعلم نفس ونمو، وتوضع له فيما بعد شرعة حقوق...
طالما اعتقد أهالي "ساحل العاج" أن الآلهة تمنح الأطفال فقط للآباء القادرين على رواية 100 حكاية على الأقل. أما في "غانا"، فإن الأطفال لا يعدّون متعلمين إلا إذا حفظوا The Gliwa، وهي قصص الحيوانات التي يتعلمون منها القيم الإنسانية.
في الأرياف العربية، وحتى وقت قريب، كانت الجدّات يحكين لأطفال الأسرة في الأمسيات العديد من الحكايات الشعبية، وأيضاً أثناء العمل، تحديداً بين المزارعين، للتخفيف من وطأة العمل على الكبار كما على الصغار الذين يساعدون أهلهم.
وفي الخليج العربي نجد تأثير المناخ واضحاً، فقد ابتكرت الذاكرة الجمعية تراثاً من الحكايات التي تنهل من البيئة الصحراوية، منها يحظر خروج الأطفال عند الظهيرة عبر ابتكار شخصية "أم حمارة" الخرافية، التي نصفها الأعلى بشري والأسفل لحمار والتي تتجوّل في الظهيرة، لمنع الطفل من الخروج والتعرّض لضربة شمس. كما ابتكرت شخصية "أبي دريا"، الكائن الأسطوري الذي يجسّد البحر ويهدّد سفن الغواصين وصيادي اللؤلؤ... كما حاولت الأمّهات خلق بيئة توازي واقعها وما فيه من محظورات، فجعلت نفسها في بعض القصص بطلة مطلقة، تتغلب على الوحوش، وتنتزع الكنوز من الأرض، كما في قصة "السدرة والستّ بنات".. وغيرها.
أوّل ما دوّن من أدب الأطفال كان أيضاً الحكايات الشعبية، وهي بعد أن كانت امتيازاً عائلياً وتربوياً للجدّات والأمّهات تحديداً، صارت مهنة للحكواتي والراوي والمنشد، خصوصاً في العصور الوسطى. ولكنّ هذا التراث الشفوي العربي لا يزال في دائرة الخطر، رغم محاولات متفرّقة لإنقاذه، إلا أنّها ليست كافية، وهذا لا يهدّد أدب الأطفال العربي فقط، بل التراث الشفوي بنفسه، ما يوجب على كلّ عربي كان للحكاية التراثية فضل عليه وعلى أحلامه وخياله وطموحه، أن يمدّ لها يد العون.
أبرز من فعل حتى اليوم هو الشاعر أحمد شوقي. متأثّراً بتجربة الشاعر الفرنسي لافونتين، قام شوقي بنظم قصائد تستوحي التراث الشعبي العالمي... ولكنّ تجربة شوقي بقيت يتيمة، ولم يملك كامل الكيلاني تطويرها؛ بسبب قصور أدواته الترويجية من جهة وأسلوبه الوعظي المدرسي. لاحقاً وجد الكثير من المتطفّلين على الأدب في التراث الشعبي الشفوي منهلاً لإصداراتهم في أدب الطفل، ولكنّها قصرت عن تقديم مشروع عربي للطفل، لأنّها رمت إلى الاستسهال والربح من دون السخاء شكلاً ومضموناً وخيالاً وتطويراً.
مبادرات فردية وأخرى رسمية في أنحاء عربية معدودة حاولت تدوين الميراث الشفوي، جمعته من الأرشيف وكتب التراث ومن أفواه الرواة والمعمّرين. ولكنّ إعادة الجمع والتدوين غالباً ما انتهت في غياهب المستودعات، إذ نادراً ما وصل هذا المنتوج أو قسم معقول منه إلى الناس، ليس فقط ليتعرفوا إليه أو يستعيدوه من ذاكرتهم، بل ليلعب دوره الإيجابي الأزلي في حياة الشعوب، وهو إغناء أدب الأطفال، ورفد الفنون كافة وحتى العلوم، تحديداً إذا اعترفنا بأنّ العلوم جميعها انطلقت من خيال جمعي، وخاضت معاركها مع معوّقات كثيرة عقوداً بعد عقود حتى صارت حقيقة.
للوقوف على هذه الأزمة، نستعيد هنا أبرز مراحل تحوّل التراث الشفوي الأوروبي إلى أدب مرموق.
صدر أول كتاب للأطفال بعد ظهور الطباعة بقرنين، عندما أصدر رجل القانون الفرنسي، شارل بيرو، عام 1697 كتاب "حكايات أمي الأوزة"، جامعاً فيه عدداً من الحكايات الشعبية التي كان يرويها الفرنسيون لأطفالهم منذ قرون وانتقلت من جيل إلى جيل. جمعها لأنه كان مسحوراً وفخوراً بها، ورغبةً منه في تخليدها؛ كونها جزءًا من التراث الفرنسي الشعبي. بعد النجاح الكبير لكتاب بيرو، توالت الإصدارات الشبيهة في أوروبا، أشهرها للأخوين غريم في ألمانيا، وللمبدع الدنماركي، هانز كريستين أندرسن، جامع الأدب الخيالي الاسكندنافي، الذي بنى على هذا المخزون لإبداع قصص جديدة، فكان رائد التجديد في التراث الشفوي.
وأطلّ القرن الـ18 برائعة "ألف ليلة وليلة" حين ترجمها أنطوان غالان إلى الفرنسية، وانتشرت في بقاع العالم، لتكون درّة الحكايات الشعبية التي قدّمها الشرق للعالم الغارق في سحرها إلى اليوم.
تطوّر أدب الأطفال بخطى ثابتة على امتداد القرنين 18 و19، وظهر أوّل كتاب نوعيّ في أدب المغامرات، والذي طبع أدب عصره وعصور لاحقة بطابعه، وهو كتاب "الحياة والمغامرات الغريبة لروبنسن كروزويه" للكاتب الإنجليزي، دانييل دوفو، عام 1719، المتأثر بمغامرات السندباد البحري ضمن "الليالي"، وأيضاً بكتاب حي بن يقظان، التي طوّرها ابن طفيل في القرن 12 م.
نلفت هنا إلى الدور البارز الذي لعبته مكتبة "هاشيت" الفرنسية، إذ فطنت إلى إقبال العائلات على شراء القصص التراثية لأبنائها، فتعاقدت مع مجموعة من الكتاب ورجال الكنيسة والرسامين لإصدار كتب للصغار، ضمن ما اشتهر على تسمية "المكتبة الوردية"، بدأت في إعادة رواية الحكايات الشعبية، ثم تخصّصت في أدب واقعي من خيال الكتاب المعاصرين، توّج بالنجاح المدوّي لقصّة الكاتب الإنجليزي لويس كارول، "أليس في بلاد العجائب" الصادرة عام 1865، ترجمت إلى 200 لغة وجنت أموالاً طائلة.
عام 1909 نالت الكاتبة السويدية سيلما لاجرلوف جائزة نوبل في الآداب، وعلى لائحة إنتاجاتها كتاب للأطفال بعنوان "نيلز"، منطلق من الميراث الشفوي السويدي، فكانت بذلك أول امرأة تنال الجائزة وأوّل سويدية أيضاً.
بعد نيلز حدثت كبوة عالمية أدبية سبّبتها الحربان العالميتان. وهنا كان لا بدّ من وقفة. فقد وجد كتّاب القرن العشرين أنفسهم أمام تحدٍّ صعب: هل في الإمكان أفضل مما كان؟ والمقصود هنا الأدب الشفوي التراثي. ساد صمت طويل
في ظلّ هيمنة المدارس الفكرية العقلانية، كمدرسة الفلسفة التحليلية أو التجريبية المنطقية (هيوم) والمدرسة المادية، والداروينية الجديدة، والماركسية الجديدة... صحيح أن ثمّة مدارس سوريالية ودادائية، إلا أنها لم تكن الغالبة على العصر، بل كان بعضها مجرّد خطرات عابرة.
قطع الصمتَ الصحافي البلجيكي، بيار كوليفورد، عام 1958 حين ابتكر شرائط مرسومة (كوميكس) باسم "شترومف" (السنافر) مطوّراً كائنات خرافية بروح تخاطب أطفال زمنه وتسحرهم، وبقيت كذلك حتى اليوم، حيث أُنتجت مؤخراً أفلام بتقنية التري دي لهذه القصّة وشخوصها.
ثم كانت النقلة النوعية مع الكاتبة الإنجليزية، جي كي رولينغ، حين أصدرت قصصها المتسلسلة "هاري بوتر" بين 1997 و2007، وأثبتت بارتكازها على الإرث الشفوي العالمي أنّ ذاك المنهل لا ينضب، لكنّه بحاجة إلى من يستوعبه ويطوّره، وكي يفعل يجب أن يكون ذا خيال وثقافة، وقودهما التراث الشفوي نفسه. هذه هي الحلقة التي نعجز عربياً اليوم عن إبداعها.
المساهمون