"الولادة في إيفن" و"اختفاء أمّي": عودة إلى أصل العالم

02 يناير 2020
من "مولودة في إيفن" (IMDb)
+ الخط -
في الجوهر، يتشابه الفيلمان الوثائقيان الجديدان، "الولادة في إيفن" (Born in Evin) للإيرانية مريم زارع، و"اختفاء أمّي" (The Disappearance Of My Mother) للإيطالي بنيامينو باريسي، رغم اختلاف أحدهما عن الآخر، إنتاجاً (الأول ألماني والثاني إيطالي) ولغة وحكاية. والتشابه بينهما كامنٌ في عوامل عديدة، أهمّها انطلاقهما من هَمّ شخصي مرتبط بالعلاقة مع الأم.

في "اختفاء أمّي"، تنطلق حكاية باريسي من الرغبة الملحّة لوالدته في الاختفاء، فهي عارضة أزياء في ستينيات إيطاليا، لكنها تمتلك دائماً وجهة نظر حادة وعنيفة، تعبّر عنها بدراستها وتدريسها الأزياء والموضة، وارتباط ذلك بفلسفة تمثيل الشخص لنفسه، ولعلاقته بالعالم. من هنا، تأتي رغبتها في الاختفاء، لا موتاً ولا انتحاراً، بل بالذهاب إلى جزيرة في آخر العالم، بعيداً عن ضوضاء العالم الحديث، كما تقول. ويحاول باريسي تأريخ شخصية والدته في أعوامها الأخيرة، قبل اختفائها.

ينطلق "مولودة في إيفن" أيضاً من بُعد شخصي مماثل. فمريم زارع مولودة في سجن "إيفن" في إيران، بعد أربعة أعوام على الثورة (1979)، التي شارك والداها فيها كناشطين سياسيّين يساريين. ومع نجاح الإطاحة بالشاه، وصعود الحكم الإسلامي بقيادة الخميني، تحوّلا إلى مُعارضَين، وباتا خائنين، ووُضعا في سجن "إيفن" للمجرمين، حيث وُلِدت، قبل هجرتها لاحقاً إلى فرانكفورت، قبل 30 عاماً. لكن أزمة زارع منبثقة من أنّ والدتها لم تحدّثها أبداً عن السجن وذكرياتها فيه، وعن ولادتها هناك، تلك الأعوام كلّها. لذا، ومع شعورها بجزء فارغ من تاريخها الشخصي، تقرّر تحقيق فيلم، تحاول فيه الإجابة عن تساؤلات كهذه: ماذا حدث، وكيف أثّر هذا عليها، وعلى والديها؟



يتشارك الفيلمان أيضاً في انفتاحهما، شيئاً فشيئاً، على البعد العام للمسألة: رحلة مريم زارع إلى "إيفن" لا تمنحها إجابة عن سؤال تاريخها الشخصي. تلتقي سيدات سُجِنّ في "إيفن" أعواماً عديدة، وتستمع إلى حكاياتهنّ عن التعذيب والقسوة. تقابل فتيات وُلِدن هناك، إحداهنّ أعدم والداها في السجن.
ببطء، تصبح السيرة الشخصية أقل إلحاحاً من التاريخ العام، شديد القسوة، مع طرح أكثر من وجهة نظر، عن الصدمة التي لم يُشفَ منها الآباء، بعد 40 عاماً على هزائمهم الشخصية، وعلى العلاقة بأبنائهم.

أما في "اختفاء أمّي"، فلا ينقاد باريسي بالجانب العاطفي الخاص بعلاقته بأمّه، حتى لو انطلق منه، أو كان حاضراً في بعض خيارات التصوير، والـ extremely close ups لملامحها وتجاعيدها. ما يهمّه أكثر كامنٌ في ما ظهر في الفيلم، أو في ما قاله في الندوة بعد عرضه: أسئلة سياسية عن العالم المُعاصر، والعلاقة بالصُور والذاكرة، وما الذي يعنيه الجمال وقيمة الشخص (خصوصاً عارض الأزياء) مع مرور الزمن، المؤدّي إلى جسد هَرمٍ؟ وماذا عن السلطة، والصراع المكتوم مع أمّه بخصوص كراهيتها التصوير، في مقابل رغبته في طرح سردية تخصّها؟ إلى أفكار تجاوزت سريعا البعد الشخصي، إلى فضاء أعمّ من الأسئلة عن العالم.


الجانب الأخير في تشابه الفيلمين، كامنٌ في تلاعبهما الذكي جداً بالوسيط. فكلاهما مُعرّف كفيلم وثائقي. لكنه يدمج فيه، بحِرفية عالية، مَشَاهد مُصوّرة أو مُرتّبة مسبقاً، من دون أدنى شعور بعدم التلقائية. يتحدّث باريسي عن ذلك صراحة، في الندوة، فيقول إنّ الأمر تجاوز مَشَاهد بحثه عن ممثلة تجسِّد لحظات من حياة أمّه في عمر صغير، وإنّ الصراع بينه وبينها يدور أصلا حول التصوير، وبعضه مرتّب مُسبقاً. بالتالي، يرى باريسي فيلمه "وثائقيا بأبعاد روائية".
في "الولادة في إيفن"، تتأثّر مريم زارع، بشكلٍ واضح، بكونها ممثلة أساساً. ومع كون كلّ ما يحدث حقيقيا، تهتمّ كثيراً بتصويرٍ مُرتّب، يهتم بلحظات انتظار أو حيرة أو صمت، وبأنْ تكون اللقاءات نفسها "مُصوّرة بسينمائية". تهتمّ أيضاً باللقطات القريبة، وبالانفعالات والتراتبية الدرامية للأحداث، مع إعادة تمثيل لقاءات مختلفة، كي تكون أكثر تأثيراً.
ينجح الفيلمان في ذلك بشكل فائق، من دون فقدان التلقائية والصدق في أيّ وقت.
دلالات
المساهمون