في روائيّه الطويل الأول، "جدار الصوت"، يختار اللّبناني أحمد غصين "حرب تموز/ يوليو" (2006)، التي شنّتها إسرائيل ضد لبنان واللبنانيين في 33 يوماً، من دون أن يحعلها النواة الدرامية، بل كي يسرد شيئاً من أحوال بيئة وأفرادٍ، عبر لقاء 5 أشخاص في منزلٍ في قرية جنوبية، يحتلّ جنود إسرائيليون طابقه الأول، من دون أن يعرفوا بوجود هؤلاء في الطابق السفلي. قصّة حقيقية يستمع إليها غصين بعد وقتٍ قليل على انتهاء تلك الحرب، فيبدأ العمل عليها أعواماً طويلة، تنتهي بإنجاز فيلمٍ غير معروضٍ لغاية الآن في الصالات اللبنانية، في مقابل مشاركاتٍ له في مهرجانات دولية وعربية مختلفة، بدءاً من "مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي"، في دورته الـ76 (28 أغسطس/ آب ـ 7 سبتمبر/ أيلول 2019)، ونيله في مسابقة "أسبوع النقّاد" 3 جوائز: أفضل فيلم، وجائزة الجمهور، وجائزة التقنيات الفنية؛ وآخرها "مهرجان روتردام السينمائي الدولي"، المنعقدة دورته الـ49 بين 22 يناير/ كانون الثاني و2 فبراير/ شباط 2020.
عن ذاكرة وراهنٍ أيضاً، يحاول "جدار الصوت" تفكيك مفاهيم مفروضة على اللبنانيين، انطلاقاً من فكرة تحويل كلّ شيء سلبيّ إلى انتصارات مُكلِفة. وهذا يبدأ مع وصول مروان (كرم غصين) إلى قريته المدمّرة بحثاً عن والده، فيجد نفسه محاصراً في منزل عجوزين صديقين لوالده المختفي، حيث يدور كلامٌ وتُطرح أسئلة وتُستعاد ذاكرة، بحضور رجل وامرأته يهربان من منزلهما الكائن في أطراف القرية.
يستحق الفيلم نقاشاً نقدياً يتناول مضمونه وشكل الاشتغال السينمائيّ الذي يصنعه أحمد غصين فيه، امتداداً لاختبارات سابقة له تتمثّل في أفلام قصيرة وتجريبية مختلفة، بالإضافة إلى مسألة التصوير في بلدة سورية يُشارك في تدميرها وتهجير أهلها من تفوَّق على العدو الإسرائيلي في "حرب تموز/ يوليو 2006".
تستند الفكرة إلى قصّة حقيقية، جرت وقائعها أثناء "حرب تموز/ يوليو 2006". عرفتُ بالقصّة حينها، لكنّي بدأت كتابتها بعد أعوام عديدة، قبل أن أنجز النسخة الأولى من السيناريو عام 2013، مع المخرج غسان سلهب، ولاحقاً مع الكاتبة والمنتجة عبلة خوري.
تقول القصّة إنّ هناك 5 أشخاص لم يتمكّنوا من الخروج من منزل أحدهم في الطابق الأرضي، من مبنى صغير في "فرون" (منطقة وادي الحجير في جنوب لبنان ـ المحرّر)، قرية والدتي. حوصر هؤلاء في الطابق الأرضي أياماً عديدة، بعد دخول جنود إسرائيليين إلى البلدة، واحتلالهم المبنى، من دون أن يُدركوا وجودهم في الطابق الأرضي. ظلّت القصّة عالقة في رأسي فترة طويلة. عندما قرّرت كتابتها، وفكّرت في تحويلها إلى فيلمٍ سينمائيّ، توجّهتُ إلى القرية، والتقيتُ الأشخاص الحقيقيين الذين عاشوا التجربة، وعانوا تداعياتها، وعرفوا قلقاً وارتباكات ومخاوف طوال أيام الحصار.
هؤلاء الأشخاص يسردون الحكاية، مكتفين بقول ما الذي حصل، لكنهم لا يُخبرونك عما هو مُكمِّل للّذي حصل. حاولتُ أنْ أعرف منهم كيف عاشوا تلك اللحظات الطويلة، بدلاً من اكتفائهم بسرد الحدث بحدّ ذاته. أردتُ أنْ أعرف منهم ما الذي شعروا به، وكيف عاشوا الوضع، وما هي تصرّفاتهم أثناء ذلك. أردتُ معرفة تفاصيل صغيرة، لكنها مهمّة: الدخول إلى الحمّام مثلاً، والحصول على المياه، ومراقبة الوضع خارج المنزل من داخل الغرف، عبر شقوق وثقوب في النوافذ والجدران. مشاعرهم أثناء استماعهم إلى ما يقوله الجنود الإسرائيليون، من دون أن يفهموا شيئاً بسبب اللغة العبرية التي لا يُتقنونها، عدم قدرتهم على الكلام، علاقتهم بالضوء والعتمة، وبأجسادهم أثناء التنفّس، ومع أقلّ حركة ممكنة.
هذه تفاصيل أردتُ معرفتها. لكنّ المحاصرين في الطابق الأرضي اكتفوا بسرد الحكاية كما هي. لم يُعطني أحدٌ منهم ما أردته من تفاصيل وحالات. هذا لا يُخبرونه أبداً.
إذاً، ماذا فعلْتَ؟
اكتفيتُ بالاستماع إليهم، وتركتُ الخيال والتأليف "يكتبان" القصّة، أي الحدث، ويبنيان عليها. كنتُ أستمع، وأحاول التقاط أصغر تفصيلٍ له علاقة بالحالة: الجسد والتنفّس والمشي والتعرّق والحرّ الشديد، وأيضاً علاقتهم بالخارج، والضوء بين الخارج والداخل. أحاول التقاط ما الذي يسمعونه، ونوعية الصوت الآتي من الخارج، وتأثيره عليهم، واللا كلام. كنتُ مهتمّاً بالتقاط اللحظات الخارجة عن الحدث، أي الحدوتة، التي تشكّل جزءاً من القصّة طبعاً، لكنّه جزء أساسي بالنسبة إليّ.
هل يُمكن القول إنّ الحدث بحدّ ذاته جزءٌ من مشروعك السينمائي هذا؟
بل المنطلَق. هذه حجّة، فبشكل أو بآخر، لديّ أسئلة حول البلد (لبنان) كلّه. الأسئلة تنطلق دائماً من المكان الذي تأتي منه، فتعيدك إلى المكان نفسه الذي تأتي منه. أسئلة عن العائلة والمنطقة والبيئة والحاضر والهجرة والحياة والمستقبل والحروب والعيش، إلخ.
بدا لي الأمر كأنّي عدتُ إلى منطقتي في الجنوب اللبناني لأطرح على نفسي أسئلة كهذه.
لكنْ، لماذا اخترتَ اليوم حرباً فُرضت على لبنان قبل 13 عاماً، كي تطرح أسئلتك هذه؟
الحرب حجّة، فالفيلم ليس فيلمَ حرب. "جدار الصوت" ليس فيلماً عن "حرب تموز 2006"، وليس فيلماً حربياً. أحداثه تدور خلال تلك الحرب، لا أكثر. الحرب مُنطلَقٌ لي، والقصّة بسيطة: شاب يتوجّه إلى قريته الجنوبية بُعيد اندلاعها بحثاً عن والده، كي يعود معه إلى بيروت. يصل إلى القرية المدمَّرة والمهجورة، لكنه لا يعثر عليه، بل على صديقين اثنين من أصدقائه، لا يزالان يُقيمان في منزلهما، في طابق أرضي في مبنى صغير. كانت تلك ساعات هدنة، لكن مع نهايتها، اشتعلت المعارك مجدّداً، فحوصر الشاب مع العجوزين، قبل وصول رجل وامرأته هرباً من منزلهما الواقع في منطقة أخطر في القرية نفسها.
لا يعثر الشاب على والده، ولا يعرف شيئاً عنه. المنطق المهموم به أنا كامنٌ في السؤال التالي: أهو منتمٍ إلى البلد، أم لا؟ أيعيش فيه، أم يُقيم على هامشه؟ ماذا عن علاقته بوالده، التي يكتشف بعض فصولها بلقائه صديقَيْ والده؟ أي أنّه "يتعرّف" أكثر إلى والده، ويُدرك أشياء لا يعرفها عنه. هناك أيضاً الشقّ السياسي: مروان (الشاب الباحث عن والده ـ المحرّر)، يحاول الهروب من إرث أبيه اليساري المهزوم. يحاول الهروب من مكانٍ لم يعد يشبهه، بعد أنْ أصبح "حزب الله" الأقوى.
زِدْ على ذلك محاولتي وضع القصّة في إطار الحالة، وإلغاء السرد منها، وأخذها أكثر إلى الصُوَر الشاعرية الداخلية، إذا صحّ التعبير. أسئلة كثيرة وكبيرة تُطرح في بداية الفيلم، أتمنّى أنْ أكون قد نجحتُ في طرحها والاشتغال عليها، وأنْ أكون قد أوصلت الحالة التي عاشها هؤلاء إلى المُشاهدين.
بالإضافة إلى ذلك، هناك العمل على معالجة كلّ شخصية، وربط القصّة بواقع معاصر حالياً. هذا تحدّ كبير لي، درامياً وسينمائياً وفنياً وإنسانياً.
هذا يظهر بصعوبته وتحدّياته أثناء الاشتغال مع الممثلين. ثم أنّ التصوير في مكان واحد صعبٌ، خصوصاً إذا كان المكان ضيّقاً. هناك الكاميرا التي يجب أن تتحرّك في علاقتها مع الممثلين. هناك 5 ممثلين في مكان واحد وضيّق، وهم يتحرّكون، وإنْ لم يتحرّكوا جميعهم في وقت واحد دائماً. كان عليّ التزام السكريبت، لكنّي لم أفعل، لأنّ ذلك سيُظهر أنّ التصوير مركّبٌ.
بين التزام السكريبت وعدم الالتزام به، ماذا كانت قراراتك؟
الأهمّ عندي أنّ التناغم بيني وبين مهندس الديكور (Art Director) حسين بيضون والمُصوّر شادي شعبان والممثلين بدأ أثناء التصوير. هناك مخرجون يرمون السكريبت ويحتفظون بالحوار والحالة. معي، كان السكريبت بحذافيره غير ضروري من أجل الحالة. المتعة في المسألة أنّ هذا كلّه (الحدث وكتابته والحالة) تمّ أثناء المونتاج (يانس خلقداكس)، وكان الأمر رائعاً. التناغم مع الممثلين يُفترض به أنْ يؤدّي إلى ما هو مهمّ أيضاً: أنْ يُضيفوا إلى رؤيتك. هناك حبّ في هذا كلّه.
لكن، ليست الحالة محصورة بالخوف والرعب فقط. المسألة تتعلّق بتساؤل: كيف يُمكن للممثلين والكاميرا أن يلعبوا بالزمن؟ كيف يُمكن إضافة الوقت إلى الزمن؟ علاقتنا بأجسادنا مثلاً، في منزل محاصر من دون أن يعرف الجنود الإسرائيليون أنّ هناك محاصرين فيه. أيام عديدة تمرّ. مهتمّ أنا بتبيان ما يحدث مع الأشخاص المحاصرين، أي بما هو أبعد من الخوف والرعب.
لا يهدف عملي إلى جعل المُشاهد يخاف، رغم أن هناك خوفاً وهذا طبيعي. أؤمن بأنّ الأمل يُخيف أكثر، وأنّ صوتاً غير مفهوم يُرعِب أكثر من توضيح كلّ شيء أمام المُشاهد. حتى في محاولة خلق لغة بصرية مختلفة. هناك كاميرا تتنفّس، بخروجها من المنزل المحاصر ولو قليلاً. هناك اختناق وضيق وهلوسة.
هذا كلّه لا يأتي من السكريبت فقط، بل من شعوري إزاء الحالة أثناء تصويرها أيضاً. فحين تكون موجوداً في البلاتوه، ترى ما الذي يشتغل، وكيف يشتغل، وإلى ما هنالك. لكن، هناك أشياء تتغيّر. لم يكن همّي أن تُصدِّق الممثلين، فلديّ ثقة بهم. الأهمّ بالنسبة إليّ مختلف: هل عليّ أن أصدِّق ردّة الفعل الأولى، اللحظة السينمائية، أو الحالة، أو لا؟ وأكثر من ذلك: ما الذي يحصل بعد الحالة، وتصديقها؟ كيف ستعيش؟
زِدْ على ذلك ما يخطر على بالي وأرغب في روايته. الحالة أوصلها إلى المُشاهِد، وأريده أنْ يدخل معي إلى زمن الشخصيات وحالات الأشخاص. أنْ يشعر معي باختناق يُصيب قاسم (عادل شاهين)، مثلاً، أو الارتباك والهلع اللذين يتعرّض لهما محمد (عصام بو خالد)، في لحظةٍ ما. ثم هناك مسألة أساسية: الجيل القديم وعلاقته بالمنطقة، وعلاقتنا نحن أيضاً، كجيل آخر، بالمنطقة نفسها.
أميل إلى ما يُعرف بـ"الكوميديا السوداء" (Black Comedies). المرحلة التي نعيشها تستدعي هذا النوع من الكوميديا. هذا اشتغال آخر فكّرت فيه أثناء التصوير.