فرقة مزيكا حسب الله.. أوركسترا الغلابة

04 يناير 2016
كانت "مزيكة حسب الله" للشعب (الأناضول)
+ الخط -


ظلَّ شارع محمّد علي رمزاً ومكافئاً لشارع الفن في مصر، طوال عقودٍ تمتدُّ من القرن الثامن عشر حتى وقتٍ قريب. فإليه كان يتجه يومياً عشاق الفن للإبداع والاستمتاع أو للهو والصخب، ومنه بدأ معظم الفنانين الكبار مشوارهم، وحوله أقيمت الأعمال الفنية التي ترصد دوره في الحياة الفنية.

يشبه شارع محمد علي شارع "ريفولي" في باريس، فقد قام بتخطيطه أيضاً مهندسٌ فرنسي شهير يدعى هوسمان، وشُيّد على النسق الفرنسي ذاته الموجود في باريس. ويبدأ الشارع من ميدان العتبة منتهياً عن ناصية مسجد النصر الأثري بميدان القلعة، بطولٍ يبلغ كيلومترين، متضمّناً مجموعة من المعالم الأثرية، مثل مسجد قيسون، وحمام بشتك، وسوق السلاح وغيرها.

يحكي كبار السنّ كيف كان الغرباء يدخلون الشارع، للتعاقُد مع الفرق الموسيقية المتنوّعة، أو بعض الراقصات الشهيرات. كما كان الشارع مقصداً لكل من يريد تصليح آلة موسيقية، أو لشراءِ آلةٍ موسيقيّة جديدة. كما اكتظ الشارع بمعلمي الموسيقى، إذ يأتي إليهم الطلاب، ليتعلّموا منهم أصول العزف والغناء.

لم تكن فرقة "حسب الله" بقيادة الفنان عبد السلام النابلسي اختراعاً في خيال الأديب يوسف السباعي، مؤلّف رواية "شارع الحب"، بل كانت الفرقة إحدى العلامات الشعبية البارزة في الشارع الفني الشهير. تأسَّست الفرقة سنة 1860، لتحوي عدداً كبيراً من العازفين المهرة، وكان أهمُّ ما يميّز الفرقة الانضباط تحت قيادة المايسترو، والزي الموحد الذي يشبه زي الجيش البريطاني.

أما اسم الفرقة فيعود لمُنشئها محمد علي حسب الله، وكان يعملُ شاويشاً، وعازفاً على الكلارينيت، وهي آلةُ نفخٍ تحتاج شيئاً من الفتوَّة والطاقة. وكان قبل تقاعُده عضواً في فرقة "سواري الخديو عباس"، والتي صارت فيما بعد فرقة الموسيقى الملكيَّة، ثم الفرقة السيمفونيَّة للموسيقات العسكريَّة.

أحيل حسب الله للتقاعد، فاتجه إلى تكوين فرقة خاصة مع بعض زملائه في الجيش، والذين تعلموا على يد أساتذة إيطاليين رفيعي المستوى. وكانت الفرقةُ بمثابةِ أوّلِ مدرسةٍ لتعليم العزف بأسسٍ علميّة في مصر. وكان أهمُّ ما يميّز الفرقة تخصُّصها في استخدام آلات النفخ والإيقاع، مثل آلة الكاس النحاسي، والطرومبيطة.

ذاع صيت الفرقة، وأصبحت "مزيكة حسب الله" بمثابة علامة تجارية؛ فكان الإقبال الشعبي على الفرقة منقطع النظير، فأثرى حسب الله وفرقته، وتغيّر وضعه الاجتماعي، وجنى أموالاً طائلة، وشهرة واسعة جداً، لفترة طويلة من الزمن.

كان كلما تميز عازف في الفرقة واشتهر، خرج منها وأسَّس فرقته الخاصة، أو انتقل إلى فرقة أخرى في الأزبكيَّة، أو في شارع عماد الدين للحصول على أجرٍ أعلى، فكانت الفرقة تضمُّ بدلاً منه عازفاً أقلَّ مهارة، فانهارت الفرقة في بعض الأزمان، حيث كانت تعتمد على جوقة تضم عدداً محدّداً من العازفين لا يمكن أن تقل عنه، بلغ 25 عازفاً، يعزفون وقوفاً وسيراً على الأقدام في مشهد عسكري بأزيائهم الموحدة، والتي كانت حمراء في بدايتها ثم تحولت إلى زرقاء ثم خضراء.

موارد الفرقة انتكَست بصورةٍ كبيرة في أجيالٍ لاحقة، وانعكس ذلك على نوعيَّة الآلات التي تستخدمها، فعمدت إلى إصلاح واستخدام أدواتٍ قديمة لتوفير النفقات، وكان ذلك في فتراتٍ مُتفاوتة.

ويُحكَي أنّ مصر شهدت في عشرينيات القرن الماضي فرقتين موسيقيَّتين شهيرتين، يتم استئجارهما في مناسبات الزواج والخطبة والختان والعودة من الحج وغيرها. إحداهما فرقة "البوليس"، ولم يكن يستطيع إحضارها سوى الأثرياء، في مقابل فرقة "حسب الله"، والتي كان ثمن إيجارها في متناول معظم أفراد الطبقة الوسطى. فكانت "مزيكة حسب الله" للشعب، و"مزيكة البوليس" للنخبة، أي أنَّ استئجار إحدى الفرقتين له علامة طبقيَّة.

مات حسب الله الأول، فورث الفرقة أبناؤه ثم أحفاده، وكل منهم يأخذ لقب حسب الله. ويظل عزت الفيومي (71 عاماً) آخر قادة فرقة حسب الله، والتي تلفظ أنفاسها الأخيرة، بعد أن جار عليها الزمن، ودالت عليها الدول، وظنّ كثير من الناس أنها صارت جزءاً من التاريخ.

إقرأ أيضاً: طوني خليفة "وحش الشاشة"؟
المساهمون