ما زالت دراما السيرة الذاتية تعاني من مشكلات حقيقية في مجتمعاتنا العربية، رغم عدد الإصدارات الهائل الذي تقلص مع مرور الوقت تبعاً لمتغيرات وعوامل عديدة كان لها بالغ الأثر في تقويضها وتراجعها. هذا لا ينفي نجاح بعض تلك الأعمال في حقب زمنية معينة، منها ما كان نجاحها آنيًا بحصيلة عائدات وأرباح عالية، ومنها ما لا يزال أثر نجاحه حاضرًا حتى وقتنا هذا.
وإذ تعددت الأعمال المبنية على تناول سيرة شخصية تعود إلى مشاهير الفن والأدب والسياسة والاقتصاد والتاريخ والإسلام وغيره من ميادين الحياة، فإن باستطاعتنا قراءة ما تعرضت له هذه النوعية من الدراما من متغيرات وتقلبات، بدءًا من استحضار أقدمها. ولعل مسلسل "الأيام" للمخرج يحيى العلمي الذي صدر عام 1979، الذي يصور حياة الأديب المصري الراحل طه حسين منذ ولادته حتى رحيله، إضافة إلى مسلسل "العملاق" الذي تناول حياة الأديب الراحل عباس العقاد، والذي صدر في العام نفسه وللمخرج نفسه، من أقدم المحاولات الفنية التي مهدت لتمدد هذا النوع من الدراما، بعد قرابة عقد من الزمن.
لم يكن باستطاعة المشاهد العربي، وقتذاك، تبعًا لمزاجه وذوقه وثقافته، أن يحسم قراره إزاء هذه التحولات في مسيرة الدراما العربية، وأن يستسيغها بشكل عادل كفاية، فإن تلقيمه وجبة دسمة مؤلفة من 15 حلقة أو 30 حلقة تحاكي حياة أحد المشاهير العرب، هو أمر يقبل القسمة، وفق نوعية المشاهد وثقافته، إلى اثنين. شريحة المثقفين وأصحاب الفكر الذين سيرحبون، إذا ما كانت جودة العمل عالية، بتلقي هذا النوع نظرًا لما سيعود عليهم بمزيد من التنوير والمعرفة، فعامل الجذب في السيرة الذاتية يكمن بكشف تفاصيل وأسرار حياة كاملة لم يكونوا على دراية بها، خصوصًا أمام هؤلاء الذين لم يعاصروا الشخصية، أو حتى لمن عاصرها.
الشريحة البسيطة المتواضعة فكرًا وثقافة ستنكر هذه الأعمال وتتهرب منها من خلال متابعة أعمال تقليدية أخرى تناسب أهواءها. هذا التقسيم مع مرور الوقت تلاشى نظريًا، فرؤية شركات الإنتاج حول مفهوم هذه النوعية من المسلسلات تغيرت، ويمكن القول إنها بدأت تتبلور بعدما تم طرح المسلسل البوليسي "رأفت الهجان" عام 1988، للمخرج يحيى العلمي، الذي جسد هذه الشخصية الجاسوسية الشهيرة الفنان المصري الراحل محمود عبد العزيز. حقق هذا العمل نجاحًا مدويًا في مصر وبقية البلدان العربية، وغدا نموذجًا جعل من الجمهور العربي، بمختلف أطيافه، يبحث عن هذه النوعية من الدراما، علاوة على بحث الموزعين والمنتجين ورغبتهم في إصدار المزيد منها. ولكن الرغبة الحقيقية بدأت عام 1999، حين استقبلت الفضائيات العربية مسلسلا يتناول حياة الست، أم كلثوم، والذي أشاد به النقاد والفنيون، ولاقى استحسان الجمهور المصري والعربي.
في العام التالي، استقبل العالم العربي مسلسلًا تاريخيًا ناجحًا بامتياز، يصور حقبة زمنية بعيدة عاش فيها "الزير سالم" بالاستناد إلى الوثاق التاريخية والسجلات والقصص العربية الخالدة، نقلها المخرج السوري حاتم علي بشكل محترف، فغدا هذا المسلسل واحدًا من أيقونات الدراما السورية والعربية التي لا تزال نتائجها حاضرة وبقوة حتى اليوم. على الرغم من أن العقد الأول من الألفية الثالثة قد تميز بكثرة المسلسلات الدرامية الخاصة بالسير الشخصية، وقد حقق البعض منها نجاحات متواضعة، مثل مسلسل "أسمهان" و"الظاهر بيبرس" و"صقر قريش" و"الملك فاروق" و"ناصر"، إلا أن بقيتها حصدت نتائج مروعة ومخيبة للآمال، ودخل سوق هذه الأعمال في معترك مع المؤسسات الرقابية والقضائية ناهيك عن الرقابة الدينية، لا سيما حين يتناول المسلسل شخصية دينية من أنبياء وخلفاء وصحابة أو قادة إسلاميين، إذ لها احترامها وقدسيتها عند الدولة والشعب. وإن أبصر العمل النور، فإنما بتنازلات إنتاجية وتبدلات وظروف خاصة تشترط الاحتكام إلى رؤية الرقابة، حتى وإن تطلب الأمر قص الكثير من المشاهد واللقطات وتعديل الحوارات، وغيرها من تفاصيل تودي بالعمل للهاوية، كما حصل مع مسلسل "خالد بن الوليد" النسخة السورية، بجزأيه اللذين صدرا عامي 2007 و2008، و"عمر بن الخطاب" عام 2012 و"هارون الرشيد" عام 2018.
لم يتوقف الأمر عند فشل معظم هذه الأعمال، فقد أدركت شركات الإنتاج مدى صعوبة تقديم هذا النوع من المسلسلات التي تتطلب ميزانيات عالية وطاقات وجهود مكثفة، وأمانة في التقصي والبحث السليم والدقيق عن حياة الشخصية وأسرارها، طبعًا بعد الوصول إلى اتفاق صريح وقطعي مع ورثة الشخصية من أبناء وإخوة وأقارب، يسمح بخروج العمل إلى الشاشة الفضية، إلا أن ذلك لم يمنع من انتشار بعض المشكلات القضائية للعلن، وأوقف على أثر الخلافات في ما بينهم عدد من الأعمال العالقة حتى اللحظة، مثلما حصل مع أحد الأعمال الذي كان سيرصد قصة حياة الفنان الراحل فريد الأطرش، قبل ما يزيد عن سبع سنوات.
قد لا نختلف حين نقول إن الدراما من هذا النوع هي وسيط ثقافي يسعى إلى التأريخ لرموز تركت بصمتها في العالمين العربي والغربي، ووسيط زمني ينقل حقبة ما كنوع من التنوير، وتكريمي يبجل هؤلاء الراحلين والمغيبين بين صفحات التاريخ. ولكن في المقابل، لا ننكر الغاية التجارية والربحية منها. وإن نظرنا إلى العقد الأخير من هذه الألفية، سنرى عدداً ضئيلاً من هذه الأعمال، لا يتجاوز عملين أو ثلاثة، تفصل بينها سنوات متباعدة.
اقــرأ أيضاً
ما يوحي بكل وضوح مدى تراجع منسوب هذه المسلسلات، ولا سيما بعد انطلاق ثورات الربيع العربي وتبدل المعادلات في المنطقة العربية والتحولات النوعية التي كان من نتائجها ولادة الدراما المشتركة المحكومة بشركات إنتاجية تزداد شهيتها بعيدًا عن أعمال السيرة الشخصية لمعرفتها مدى خطورة المجازفة بها، بعدما فشلت في تكوين قاعدة جماهيرية مستمرة. فنوعية هذه الأعمال أظهرت، على خلاف ما كان متوقعًا، حجم الهوة بينها وبين المشاهد، لأسباب تتعلق بالمصداقية والشفافية، مضافًا إليها مشاكل الممثلين وعدم إيفاء الشخصية المجسدة كامل حقها، لعدم ضلوعهم بها وبأدق تفاصيلها، وإن أجادوا الأداء، كان لا بد أن يضيع المجهود مع باقي تفاصيل العمل، إما في الإخراج أو السيناريو والحوار أو المعالجة الدرامية.
وإذ تعددت الأعمال المبنية على تناول سيرة شخصية تعود إلى مشاهير الفن والأدب والسياسة والاقتصاد والتاريخ والإسلام وغيره من ميادين الحياة، فإن باستطاعتنا قراءة ما تعرضت له هذه النوعية من الدراما من متغيرات وتقلبات، بدءًا من استحضار أقدمها. ولعل مسلسل "الأيام" للمخرج يحيى العلمي الذي صدر عام 1979، الذي يصور حياة الأديب المصري الراحل طه حسين منذ ولادته حتى رحيله، إضافة إلى مسلسل "العملاق" الذي تناول حياة الأديب الراحل عباس العقاد، والذي صدر في العام نفسه وللمخرج نفسه، من أقدم المحاولات الفنية التي مهدت لتمدد هذا النوع من الدراما، بعد قرابة عقد من الزمن.
لم يكن باستطاعة المشاهد العربي، وقتذاك، تبعًا لمزاجه وذوقه وثقافته، أن يحسم قراره إزاء هذه التحولات في مسيرة الدراما العربية، وأن يستسيغها بشكل عادل كفاية، فإن تلقيمه وجبة دسمة مؤلفة من 15 حلقة أو 30 حلقة تحاكي حياة أحد المشاهير العرب، هو أمر يقبل القسمة، وفق نوعية المشاهد وثقافته، إلى اثنين. شريحة المثقفين وأصحاب الفكر الذين سيرحبون، إذا ما كانت جودة العمل عالية، بتلقي هذا النوع نظرًا لما سيعود عليهم بمزيد من التنوير والمعرفة، فعامل الجذب في السيرة الذاتية يكمن بكشف تفاصيل وأسرار حياة كاملة لم يكونوا على دراية بها، خصوصًا أمام هؤلاء الذين لم يعاصروا الشخصية، أو حتى لمن عاصرها.
الشريحة البسيطة المتواضعة فكرًا وثقافة ستنكر هذه الأعمال وتتهرب منها من خلال متابعة أعمال تقليدية أخرى تناسب أهواءها. هذا التقسيم مع مرور الوقت تلاشى نظريًا، فرؤية شركات الإنتاج حول مفهوم هذه النوعية من المسلسلات تغيرت، ويمكن القول إنها بدأت تتبلور بعدما تم طرح المسلسل البوليسي "رأفت الهجان" عام 1988، للمخرج يحيى العلمي، الذي جسد هذه الشخصية الجاسوسية الشهيرة الفنان المصري الراحل محمود عبد العزيز. حقق هذا العمل نجاحًا مدويًا في مصر وبقية البلدان العربية، وغدا نموذجًا جعل من الجمهور العربي، بمختلف أطيافه، يبحث عن هذه النوعية من الدراما، علاوة على بحث الموزعين والمنتجين ورغبتهم في إصدار المزيد منها. ولكن الرغبة الحقيقية بدأت عام 1999، حين استقبلت الفضائيات العربية مسلسلا يتناول حياة الست، أم كلثوم، والذي أشاد به النقاد والفنيون، ولاقى استحسان الجمهور المصري والعربي.
في العام التالي، استقبل العالم العربي مسلسلًا تاريخيًا ناجحًا بامتياز، يصور حقبة زمنية بعيدة عاش فيها "الزير سالم" بالاستناد إلى الوثاق التاريخية والسجلات والقصص العربية الخالدة، نقلها المخرج السوري حاتم علي بشكل محترف، فغدا هذا المسلسل واحدًا من أيقونات الدراما السورية والعربية التي لا تزال نتائجها حاضرة وبقوة حتى اليوم. على الرغم من أن العقد الأول من الألفية الثالثة قد تميز بكثرة المسلسلات الدرامية الخاصة بالسير الشخصية، وقد حقق البعض منها نجاحات متواضعة، مثل مسلسل "أسمهان" و"الظاهر بيبرس" و"صقر قريش" و"الملك فاروق" و"ناصر"، إلا أن بقيتها حصدت نتائج مروعة ومخيبة للآمال، ودخل سوق هذه الأعمال في معترك مع المؤسسات الرقابية والقضائية ناهيك عن الرقابة الدينية، لا سيما حين يتناول المسلسل شخصية دينية من أنبياء وخلفاء وصحابة أو قادة إسلاميين، إذ لها احترامها وقدسيتها عند الدولة والشعب. وإن أبصر العمل النور، فإنما بتنازلات إنتاجية وتبدلات وظروف خاصة تشترط الاحتكام إلى رؤية الرقابة، حتى وإن تطلب الأمر قص الكثير من المشاهد واللقطات وتعديل الحوارات، وغيرها من تفاصيل تودي بالعمل للهاوية، كما حصل مع مسلسل "خالد بن الوليد" النسخة السورية، بجزأيه اللذين صدرا عامي 2007 و2008، و"عمر بن الخطاب" عام 2012 و"هارون الرشيد" عام 2018.
لم يتوقف الأمر عند فشل معظم هذه الأعمال، فقد أدركت شركات الإنتاج مدى صعوبة تقديم هذا النوع من المسلسلات التي تتطلب ميزانيات عالية وطاقات وجهود مكثفة، وأمانة في التقصي والبحث السليم والدقيق عن حياة الشخصية وأسرارها، طبعًا بعد الوصول إلى اتفاق صريح وقطعي مع ورثة الشخصية من أبناء وإخوة وأقارب، يسمح بخروج العمل إلى الشاشة الفضية، إلا أن ذلك لم يمنع من انتشار بعض المشكلات القضائية للعلن، وأوقف على أثر الخلافات في ما بينهم عدد من الأعمال العالقة حتى اللحظة، مثلما حصل مع أحد الأعمال الذي كان سيرصد قصة حياة الفنان الراحل فريد الأطرش، قبل ما يزيد عن سبع سنوات.
قد لا نختلف حين نقول إن الدراما من هذا النوع هي وسيط ثقافي يسعى إلى التأريخ لرموز تركت بصمتها في العالمين العربي والغربي، ووسيط زمني ينقل حقبة ما كنوع من التنوير، وتكريمي يبجل هؤلاء الراحلين والمغيبين بين صفحات التاريخ. ولكن في المقابل، لا ننكر الغاية التجارية والربحية منها. وإن نظرنا إلى العقد الأخير من هذه الألفية، سنرى عدداً ضئيلاً من هذه الأعمال، لا يتجاوز عملين أو ثلاثة، تفصل بينها سنوات متباعدة.
ما يوحي بكل وضوح مدى تراجع منسوب هذه المسلسلات، ولا سيما بعد انطلاق ثورات الربيع العربي وتبدل المعادلات في المنطقة العربية والتحولات النوعية التي كان من نتائجها ولادة الدراما المشتركة المحكومة بشركات إنتاجية تزداد شهيتها بعيدًا عن أعمال السيرة الشخصية لمعرفتها مدى خطورة المجازفة بها، بعدما فشلت في تكوين قاعدة جماهيرية مستمرة. فنوعية هذه الأعمال أظهرت، على خلاف ما كان متوقعًا، حجم الهوة بينها وبين المشاهد، لأسباب تتعلق بالمصداقية والشفافية، مضافًا إليها مشاكل الممثلين وعدم إيفاء الشخصية المجسدة كامل حقها، لعدم ضلوعهم بها وبأدق تفاصيلها، وإن أجادوا الأداء، كان لا بد أن يضيع المجهود مع باقي تفاصيل العمل، إما في الإخراج أو السيناريو والحوار أو المعالجة الدرامية.