لا تُمكن مُشاهدة الراقص الفريد ومصمم الرقص الاستثنائي سيدي العربي الشرقاوي، من دون إحاطة رحبة بمسيرة الرقص المُعاصر منذ طَلاقه من الباليه الكلاسيكي بداياتِ القرن، مروراً بالعودات المُترددة إليه، وافتراقاته عنه بين الحين والآخر. مسيرةٌ ظلت تحمل رسالة واحدة، بقدر وفرة الاجتهادات والإبداعات في تأويلها وتأطيرها، مفادها أن الرقص ما هو إلا مرآة بشرية تعكس الهنيهة التاريخية لحظة تأرجحها ما بين الواقع والحُلم.
كل من السينمائية والطفرة التكنولوجيّة الراهنة، تمثّل ينابيع إلهام شرقاوي، ينهل منهما كما نهل أساتذته، رواد الرقص التعبيري من ينابيع التحليل النفسي مثلاً، أو الحركة التعبيرية الفنية والأدبية، أو الموسيقى اللامقامية والإلكترونية، أو حتى موسيقى الروك وثقافة البوب والهيب هوب. ليست الفنون والعلوم بطبيعة الحال وحدها معين الراقص، وإنما الحركات الاجتماعية والسياسية أيضاً، لا سيما الحراك النسوي والعمّالي والشبابي، والثورات الشعبية والتغيّر المناخي. وهذه لا تؤثّر على رؤية الإنسان إلى العالم فقط، وإنما توجّه أيضاً حركة الجسد في المكان، في قاعة التدريب المُحاطة بالمرايا، أو في المشهد على خشبة المسرح.
في لوحة In Memoriam، من تصميم الشرقاوي تعود إلى عام 2004، ومن إنتاج مؤسسة "باليه مونت كارلو"، يتقصّى الراقص عبر الجسد حقيقة الحياة والموت، على غناء جوقة تستلهم التراث الموسيقي المتوسطيّ لمُقاطعة كورسيكا الفرنسية، وبأزياء تجمع بين الساموراي والمولوية. يمزج الشرقاوي الباليه الكلاسيكي، من مركزيّة الانتصاب على رؤوس الأصابع والدوران المحسوب والمُنتظم، بحرية الحركة في الرقص المُعاصر، في إشارة إلى العلاقة بين الحيّ والميت، على حد وصفه. مُنيةً منه ربما في إحياء الميّت، يقوم الراقص بتحريك يده ليموج بها جسد الراقصة عن بعد، البعد هنا يستدعي مختلف التأويلات: هل تحريك الجسد إحياءٌ لذكراه أم دفع به إلى مثواه؟ متوازيات تضمّ الموت والحياة، الحاضر والماضي، تُمثلّها الأجساد من دون أن تصل بينها، فيما يفصل بينها حقل مغناطيسي، مادة عمياء، يسعى الشرقاوي، في ما يبدو، إلى اكتناهها واكتشاف خواصها، عبر التناغم بين الحركة والسكون.
في جمع الباليه الكلاسيكي بالرقص المُعاصر، يسير الشرقاوي على طريقٍ خطّه واحد من أساتذته، هو الراقص الأميركي ومصمم الرقص ويليام فورسايث William Forsythe. فبعد قطيعة مع الباليه نادى بها رواد الرقص الحرّ، بوصفه مُمثلاً لحقبة البرجوازية المُنمّقة البعيدة عن الحياة والواقع، أعاد فورسايث إحياء تقاليد الباليه من باب إدخاله كعنصر مُضاف إلى مجالات الفنون العصرية، كالسينما والموسيقى التجريبية، وبذلك نأى بنفسه عن الخط التعبيري المحض، والثوري الراديكالي الذي تبنته المجموعة الأميركية المعروفة باسم Justin Church group إبان الستينيات، وهم ثُلّة راقصات وراقصين ثوريين وراديكاليين، رأوا في حركة الأجساد المينيمالية (المُنمنمة) للأفراد في المُجتمعات الصناعية الحديثة، المادة الخام والمورد الشرعي الحقيقي للرقص.
لوحة رقص أخرى للشرقاوي خارقة للعادة هي "سوترا" Sutra من إنتاج عام 2008، أشبه برحلة إلى عمق الفلسفة الشرقية سعياً إلى فهم ماهية الحياة وعلاقة الكائن بالكون وبالموجودات. في سبيل ذلك، اتجه الشرقاوي إلى معبد الشاولين الشهير في الصين، ليشتغل مع فرقة من الرهبان البوذيين ممن يُمارسون طقوس الفنون القتالية (الكونغ فو)، من أجل بناء المسرح. دعا الشرقاوي النحّات البريطاني الشهير أنطوني غورملي Antony Gormley ليبني له صناديق من خشب أصفر سيعتليها الرهبان المُقاتلون كالأبراج أو يُحشرون فيها كالتوابيت، سيجرّونها كجدران متحركة أو يدفعون بها لتسقط وترتطم بالأرض، فتُحدث إيقاعات كقرع الطبول تنظم موسيقى العرض.
وحي السينما جليّ وواضح، سواء من خلال مشاهد الفنون القتالية، أو في المشاهد التي تجمع الشرقاوي الراقص بالطفل الصيني، الراهب الصغير. لقاءٌ بين عمق الفلسفة البوذية وقلق العلاقة الرخوة والسائلة التي تجمع الإنسان المُعاصر بواقع التكنولوجيا، حيث تضيع الحدود الفاصلة بين كل من الشخصي والموضوعي والافتراضي. طرحٌ يُذكّر بسلسلة "ماتريكس" The Matrix تلك العلامة السينمائية الفارقة، إذ يتساءل الشرقاوي حول وجود الإنسان في المكان، أم المكان في الإنسان، من خلال تثبيت الراقص وتحريك أثاث المسرح، كأن به يوحي بأن المكان كائنٌ بوعي الكائن، والواقع واقعٌ في الوجود لا خارجه، موجود به، وليس موجوداً له.
الرقص بوصفه مسيرة تحرر يُكملها الشرقاوي ومجايلوه من نجوم الرقص، بدأت بتحرير الجسد من كونه محض أداة تعبيرية في خدمة النص الأدبي والموسيقى، كما في باليه القرن التاسع عشر، ليَغدو كياناً ثقافياً مُستقلاً أراده روّاد القرن العشرين رسالة سياسية نادت، أولاً، بتحرّر المرأة روحاً وجسداً، اقتداءً بسيّدة الرقص الحرّ الأميركية إيزودورا دنكن Isodora Duncan المُلقبة بـ"راقصة المُستقبل"، ثم بتحرير الرقص من الموسيقى كما عند مرس كونينغهام Merce Conningham الأميركي الآخر الذي جعل الرقص في خدمة الرقص وحده، بينما أعادت الأسطورة الألمانية بينا باوش Pina Bausch الرقص إلى المسرح لتُحرّره من واقعية ما بعد الحربين العالميّتين، أما شرقاوي اليوم، فيبدو كأنه يُحرّر الرقص من المسرح مُجدداً ومن الواقع في آن، آخذاً الجسد إلى منحى جديد أشبه بواقعية سحرية.
اقــرأ أيضاً
أخيرا، يُشار إلى أنه خلال الموسم الحالي لعام 2019 - 2020، ستحتفل دار أوبرا ومسرح باليه "فلينديرن" البلجيكية، بمرور خمسين عاماً على تأسيسها، مُستضيفة افتتاح العرض الجديد للراقص ومصمم الرقصات البلجيكي من أصل مغاربي سيدي العربي شرقاوي "ميّا كولبا".
كل من السينمائية والطفرة التكنولوجيّة الراهنة، تمثّل ينابيع إلهام شرقاوي، ينهل منهما كما نهل أساتذته، رواد الرقص التعبيري من ينابيع التحليل النفسي مثلاً، أو الحركة التعبيرية الفنية والأدبية، أو الموسيقى اللامقامية والإلكترونية، أو حتى موسيقى الروك وثقافة البوب والهيب هوب. ليست الفنون والعلوم بطبيعة الحال وحدها معين الراقص، وإنما الحركات الاجتماعية والسياسية أيضاً، لا سيما الحراك النسوي والعمّالي والشبابي، والثورات الشعبية والتغيّر المناخي. وهذه لا تؤثّر على رؤية الإنسان إلى العالم فقط، وإنما توجّه أيضاً حركة الجسد في المكان، في قاعة التدريب المُحاطة بالمرايا، أو في المشهد على خشبة المسرح.
في لوحة In Memoriam، من تصميم الشرقاوي تعود إلى عام 2004، ومن إنتاج مؤسسة "باليه مونت كارلو"، يتقصّى الراقص عبر الجسد حقيقة الحياة والموت، على غناء جوقة تستلهم التراث الموسيقي المتوسطيّ لمُقاطعة كورسيكا الفرنسية، وبأزياء تجمع بين الساموراي والمولوية. يمزج الشرقاوي الباليه الكلاسيكي، من مركزيّة الانتصاب على رؤوس الأصابع والدوران المحسوب والمُنتظم، بحرية الحركة في الرقص المُعاصر، في إشارة إلى العلاقة بين الحيّ والميت، على حد وصفه. مُنيةً منه ربما في إحياء الميّت، يقوم الراقص بتحريك يده ليموج بها جسد الراقصة عن بعد، البعد هنا يستدعي مختلف التأويلات: هل تحريك الجسد إحياءٌ لذكراه أم دفع به إلى مثواه؟ متوازيات تضمّ الموت والحياة، الحاضر والماضي، تُمثلّها الأجساد من دون أن تصل بينها، فيما يفصل بينها حقل مغناطيسي، مادة عمياء، يسعى الشرقاوي، في ما يبدو، إلى اكتناهها واكتشاف خواصها، عبر التناغم بين الحركة والسكون.
لوحة رقص أخرى للشرقاوي خارقة للعادة هي "سوترا" Sutra من إنتاج عام 2008، أشبه برحلة إلى عمق الفلسفة الشرقية سعياً إلى فهم ماهية الحياة وعلاقة الكائن بالكون وبالموجودات. في سبيل ذلك، اتجه الشرقاوي إلى معبد الشاولين الشهير في الصين، ليشتغل مع فرقة من الرهبان البوذيين ممن يُمارسون طقوس الفنون القتالية (الكونغ فو)، من أجل بناء المسرح. دعا الشرقاوي النحّات البريطاني الشهير أنطوني غورملي Antony Gormley ليبني له صناديق من خشب أصفر سيعتليها الرهبان المُقاتلون كالأبراج أو يُحشرون فيها كالتوابيت، سيجرّونها كجدران متحركة أو يدفعون بها لتسقط وترتطم بالأرض، فتُحدث إيقاعات كقرع الطبول تنظم موسيقى العرض.
الرقص بوصفه مسيرة تحرر يُكملها الشرقاوي ومجايلوه من نجوم الرقص، بدأت بتحرير الجسد من كونه محض أداة تعبيرية في خدمة النص الأدبي والموسيقى، كما في باليه القرن التاسع عشر، ليَغدو كياناً ثقافياً مُستقلاً أراده روّاد القرن العشرين رسالة سياسية نادت، أولاً، بتحرّر المرأة روحاً وجسداً، اقتداءً بسيّدة الرقص الحرّ الأميركية إيزودورا دنكن Isodora Duncan المُلقبة بـ"راقصة المُستقبل"، ثم بتحرير الرقص من الموسيقى كما عند مرس كونينغهام Merce Conningham الأميركي الآخر الذي جعل الرقص في خدمة الرقص وحده، بينما أعادت الأسطورة الألمانية بينا باوش Pina Bausch الرقص إلى المسرح لتُحرّره من واقعية ما بعد الحربين العالميّتين، أما شرقاوي اليوم، فيبدو كأنه يُحرّر الرقص من المسرح مُجدداً ومن الواقع في آن، آخذاً الجسد إلى منحى جديد أشبه بواقعية سحرية.
كلٌ من سيدي العربي الشرقاوي وزميله الراقص أكرم خان يتحدران من خلفية مشرقية مُسلمة، شرقاوي ابن أب مغربي وأمٍّ بلجيكية، وأكرم خان ابن عائلة بنغالية مُهاجرة إلى بريطانيا. في لوحتهما الثُنائية "درجة الصفر" Zero degrees إنتاج عام 2005، يرصد الاثنان حال ازدواجية الهوية برقص يمزج الأجساد بالدُمى ويزاوج بين الممكن والمُحال، بدءاً من ثنائية الجسد، جسد شرقاوي وخان، يسبران معاً أوجه الثنائيات التي وسمت فكر البشر دهراً طويلاً، من حياة وموت، إلى وجود وعدم، روح وجسد، خير وشر، أنا وآخر، فيما يشعر الراقصان أنهما يحملان كل الثنائيّات فيهما، يسعيان إلى إزالة كل الحدود بينهما، وصولاً إلى درجة الصفر، نقطة الحلول وزوال الحدود، عتبة الحريّة.