حكواتي: عن الحبّ وعذابات القصبجي

30 اغسطس 2015
محمد القصبجي (يوتيوب)
+ الخط -
كل من يحبون ويخيبون في الحبّ أتخيّلهم بوجه القصبجي الحزين. كلّما رأيته خلف السيدة أم كلثوم، أشعر أنّني أريد الاقتراب منه ومعانقته بقوّة وشفقة وحبّ. فقد عرفت دائماً أنّه عندما تبلغ أقصى درجات الحزن ويأتي شخص ليعانقك، يتزلزل غيظك وتبكي، حتّى تتلطف العاصفة بروحك.

في المغرب نطلق على الأمر تسمية شفيفة جدا: "كيطيح عليك الضيم"، بمعنى أنّ كلّ غبنك يتدفّق دفعة واحدة على صدر دافئ.

تمرّ حصّة الست الغنائية التي أتابعها بشهية المريدة كلّ مساء، كما الحرائق، لا يمكن أن تشتعل بها ولا تكتب، ولا يمكن ألا تأتي على الأخضر بروحك، وعلى اليابس. لكن كلّما أردت الكتابة عن الحبّ وجدتني أفكر بالقصبجي. أفكر كيف يملك صوت أم كلثوم كل هذا الوجع والقرب وهي مغروسة كرمح في قلبه.

أراه: يجلس خلفها، كما يجلس صريع ذاهل، يعانق عوده، يعزف ليتلظّى صوتها بحبّ ليس له، ليرقّ لحبيب لم يكن هو.أشعر بالغضب أيضاً منه، كيف له أن يدوزن ألحانه على عذابات قلبه ولا يصرخ به أن توقف؟

اقرأ أيضاً: هل تعرف المطرب الوحيد الذي غنّى "دويتو" أم كلثوم؟

كيف يمنح صوتها الوتر البديع حتّى يصير أجمل، وهو كئيب جداً هنا، تعيس خلف تلك النظارة القاتمة، خلف شفتيه المزمومتين كما انطبق الكهف على أهله. "قدّ إيه من عمري قبلك راح". تدري كم يا قصبجي؟ "ولا شاف القلب قبلك فرحة واحدة ولا ذاق في الدنيا غير طعم الجراح". كم جرحاً احتمل قلبك؟ كيف كنت تسعد بشوقك المشتّت كمشيئة غير عادلة؟



كأنّني أسمع قلب القصبجي يقول: "معللتي بالصبر وهو وهم". فالسرابات لا يقبض عليها، نفني العمر بملاحقتها ونهلك دونها... فكم عمراً ملك حتّى أفنى أيامه خلف قلبه؟
لقد حزنت بدلاً منه عندما لم يعد رئيس تخت الستّ الغنائي. لكن لأنّها الستّ وسيّدة قلبه بقي كما الأنهار يجري متّحداً إلى مصبّ واحد لا محيد عنه: "أخاف لا العمر يجري". لم يخف وكان يدري أنّ "بعض الوفاء مذلّة".

اقرأ ايضاً: "ودارت الأيام" والموسيقى التي أخافت أم كلثوم

لكنّ يا الله، أيّ نور ذاك الذي سبا وجوده وأحاله ظلاً لوجودها، أسأل وأكاد أقسم أنّني أسمعه يقول: "أنا أحيا في غدي الآن بأحلام اللقاء، فائتِ أو لا تأتٍ أو افعل بقلبي ما تشاء".
ألا يتمنّى كلّ حب عاشقاً كما القصبجي، مخلصاً وصادقاً وفانياً؟

هذا الفناء كأنّ فيه عبث القدر وجموح الأضداد وسيزيفية التفكير بأجوبة لأسئلة: لِمَ وكيف؟
"إنتَ عمري اللي ابتدى بنورك صباحو". أظنّها تكفي كتأبين نقي، يقود إلى الكوّة في روحك، التي رأيت منها هذا الفيض الذي يسمّى "الحب"، أيّها القصبجي. يا نحن.

اقرأ أيضاً: حين ترث النجمات أضواء آبائهنّ وأصواتهم
المساهمون