موسيقى باخ في زمن الذكاء الاصطناعي

28 يوليو 2019
تُسمع موسيقى باخ من منظور صوفيّ صرف (Getty)
+ الخط -
يحق للمرء أن يسأل عن مغزى سماع موسيقى ألفها أحدهم منذ ما يزيد عن 300 عام. في الغرب البعيد، في ألمانيا البروتستانتية، ذات البرد القارس والطقس العكر، والتي كانت تتنازعها الحروب، موسيقيٌّ لم تطأ قدماه أرضاً غيرها، لم يُغادر الكنيسة – حيث الله ولوح مفاتيح الأورغن – سوى ليعود إلى البيت أو ليلبّي دعوة الملك مرغماً، لاختبار آلة بيانو حديثة أو خوض مبارزة في الارتجال.

بيد أن سيرورة التاريخ ما فتئت تذهب بمسارات واتجاهات، ثم تأتي بأخرى. لقد عاش يوهان سباستيان باخ، الذي تمر على رحيله 269 عاماً، على مفترق تاريخي، جعل من فكره ومن موسيقاه بالنسبة إلى جُلّ معاصريه نكوصاً عن الدارج وعزوفاً عن مواكبة العصر. اليوم، وبتأمل الخارطة الفكرية الجديدة للإنسانية، بمُقدماتها التكنولوجية ومُخرجاتها الإبداعية، تبدو موسيقى باخ عصريةً أكثر من أي يومٍ مضى.

بلحنٍ من بضع نغمات، سلسٍ ومفتوح، عادةً ما يفتتح باخ مقطوعاته كالكانون أو الفوغ. لا يلبث اللحن ذاته بعد ذلك أن يظهر من جديد، بعد أن يتّخذ له شكلاً آخرَ. مرّات، تسمعه الأذن مُطابقاً للأصل، مُنطلقٌ من على عتبة مُغايرة، مُرتفعة أو مُنخفضة. ومرّات، تسمعه معكوساً؛ يبدأ من حيث انتهى الأصل ويُتابع رجوعاً. ومرّات، تسمعه الأذن مُنعكساً، كأن بالعين تراه في المرآة.

يسبح اللحن وتحوّلاته – التي قد تصل إلى ستة – في فَلَكٍ يحكُمه ميزان صارم ويحتويه بنيان منيع ومستقر من الألحان المُؤتلفة، المُتقابلة والمتعارضة. صيرورةٌ موسيقية حيوية وهندسية في آن، قائمة على قوانين وتفاعلات، أهم ما يُميّزها ألا قائدَ فيها ولا تابع، لا أوّل لها ولا آخر، لا مُبتدأ ولا خبر، كلُّ الألحان سيان. في تعبيرٍ أسمى عن وحدة الشكل في الكوْن وفي الوجود.

تتعدى ظاهرة الوحدة تلك المادي إلى الروحي؛ فليست الصنعة الفنية الخارقة، أو الشكل المُعقد، أو المعمار البديع ما يجعل من موسيقى باخ إعجازاً بشرياً، وإنما قدرته على أنسَنة العناصر التشكيلية، لجهة تحميلها بالفكر وشحنها بالعاطفة. لتزول الحدود بين مفاصل البنيان ومشاعر الإنسان الذي شيّده. فالبنية لدى باخ وحدة عضويّة، بقدر ما هي هندسية.

جماليّات الوحدة والطرب – المُتمثّل بالخفة والحركة – بوصفها، عند باخ، تجسيداً موسيقياً لنموذجٍ قروسطي من هندسةٍ عضوية – أو عضوية هندسية – تقترب من الزخرفة الإسلامية والعمارة القوطية، ستشهد انحساراً، جرّاءَ صعود تيارٍ فكري جديد في أوروبا، سيرسم مساراً مُحدثاً في العلم والفلسفة والفن، سيمتد أثره ويستمر لقرون قادمة.

سلبت الاكتشافات العلمية المتسارعة والاختراعات التقنية المتتابعة ألباب الفلاسفة المُعاصرين لباخ بين منتصف القرنين السابع عشر والثامن عشر. كما ألهبت بوادر الثورة الصناعية الآتية مُخيلات الأدباء والشعراء. الأمر الذي وشى بطفرة معرفية ستطاول مُختلف نواحي الحياة، وتنعكس بطبيعة الحال، على مُجمل الإبداعات، بما فيها الموسيقى.

ظهور الآلة ذاتية الدفع والحركة، وتطوّر المكننة والتشغيل، سواء بالماء أو الهواء أو البخار، إضافة إلى استنتاجات واستدلالات العُلماء، كنيوتن وباسكال في الفيزياء والكيمياء والرياضيات، كل هذا الفوران العلمي، ألهم الإنسانية رؤية حديثة للعالم استندت إلى فكر الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، القائل بأن الوجود ثنائيةُ الفكر والمادة، واستقلاليةُ العقل عن الجسد.

في ضوء الرؤية الجديدة، اكتسب الإنسان المُفكّر، الفرد والأبيض – بمقتضى المجال الجيوثقافي لتلك الحقبة – مرتبة عليا، نُزِّه فيها عن سائر الموجودات، إن كانت جمادات كالكون والطبيعة، أو مُتحركات كالآلات الصناعية، إضافة إلى العبيد. تلك الفترة، والتي اصطُلح عليها "التنوير"، تمخضت عنها جماليات وأساليب فنية جديدة وعصرية شملت الموسيقى.

أثرت ثنائية ديكارت بارتداداتها الفلسفية على شكل الموسيقى الكلاسيكية. ليتكرّس نمط الكتابة "الهوموفونية" القائم بدوره على ثنائية اللحن والمُرافقة، على حساب النمط "البوليفوني" المرتكز على تعدد الأصوات وتساويها منزلةً، ضمن وحدة وعضوية البنيان كما شيّده باخ على نحو بَلغ حد الكمال. صار اللحن الفرد والحرّ – مثلما هو الفرد الحرّ في الفكر – الجوهر والمحور.

سيقود فكر التنوير بأعلامه حركة التاريخ في أوروبا. من رحمه ستولد الثورة الفرنسية، سيُستكمل مسار الثورة الصناعية وتتشكّل ملامح اقتصاد السوق. ستندلع حروب وترتكب فظائع. كما ستُخلق إبداعات وتُنجز روائع. الآن، وفي مُستهل القرن الحالي، تلوح في الأفق رياح ثورة معرفية جديدة قادمة.

شرعت الإنجازات العلمية الأخيرة في مجال تقنيّة المعلومات والذكاء الاصطناعي – ناهيك عن تطبيقات الفيزياء الكميّة – في تغيير علاقة الإنسان بالعالم. تبدو تكنولوجيا اليوم عابرة للمكننة الصلبة التي ميّزت الثورة السابقة. أَثيرُ الإنترنت مجالها والبيانات مواردها. تطوّرٌ، يُنبئ باحتواء التكنولوجيا للواقع وإعادة إنتاجها له في صيغة واقع موازٍ لا يعود الإنسان فيه المُسيِّر له والمُدبرّ.

باتت الإنسانية ترى ذاتها بوصفها عابرة. فكرة خلافة الروبوتات للبشر لم تعد أسيرة الروايات الخيالية وإنما تحديّاً قائماً، أقلّه في الأخطار المحيقة بسوق العمل. لا تبدو الوقائع محلّ إجماع، وكأني بتفاحة نيوتن لم تعد لتسقط بالضرورة نحو الأسفل إن قُذفت في الهواء. صار لكلٍّ يقينيّته، في زمن "ما بعد الحقيقة".

وعليه، فإن روحيّة جديدة تنظر إلى الإنسان وسائر الموجودات بدءاً من الكون والطبيعة وليس انتهاء بالجمادات والآلات والبيانات، كعناصرَ حيّة مرتبطة ومتكافلة في ما بينها، في عضويّة مُفعمة بالطاقة، متناغمة في وحدة واتساق، تُسمع موسيقى يوهان سباستيان باخ في أرجائها، ومن منظور صوفيّ صرف مُجتاز للتاريخ وللهوية الثقافية والدينية، صدىً لمُستقبلٍ، عساه أن يكون أفضل.

المساهمون