كِنْ لوتش اليساري: الرقيق والغاضب يصنع أفلاما باهرة

11 نوفمبر 2019
كِنْ لوتش: فضح النظام الاقتصادي (لوي فينانس/فرانس برس)
+ الخط -
منذ بداية مسيرته في ستينيات القرن المنصرم، عُرف المخرج البريطاني كِنْ لوتش (1936) بأفلامه ذات النزعة السياسية، المهتمّة تحديداً بحكايات الطبقة العاملة في إنكلترا، وكيفية تأثير الفقر والأزمات الاقتصادية المتتالية على الحياة اليومية للناس، وعلى علاقات بعضهم ببعض. الفيلم الذي صنع شهرته حينها يحمل عنوان Kes، الذي أنجزه عام 1969، سارداً فيه حكاية فتى (15 عاماً) ينتمي إلى طبقة معدمة، وحكاية معاناته مع عائلته ومدرسته ومجتمعه. فيلمه هذا حَمل الملامح كلّها لسينما لوتش في أفضل صورها، واختاره "معهد الفيلم البريطاني" في المركز السابع، في قائمة أفضل 100 فيلم بريطاني في القرن الـ20.

منذ تلك اللحظة، وخلال 40 عاماً، قدّم لوتش أفلاماً تناول فيها المواضيع نفسها، متوارياً في الكوميديا، أو في التراجيديا الزاعقة، أو في الجريمة المُلغّزة. لكن البُعد الاشتراكي الطبقي حاضر دائماً، إلى درجة أنه لا يُمكن قراءة أفلامه من دون هذا البُعد، قبل أن تُضاف إليه صفة أخرى مع مرور السنين: الغضب. ففي حوارٍ معه، منشور في الصحيفة البريطانية "ذا غارديان" عام 2016، قال لوتش: "إذا لم تكن غاضباً من هذا الإذلال المستمر، للنجاة في حياتك، فأي شخص هو أنت؟".

والحوار هذا منشور بعد أشهر قليلة على فوزه بـ"السعفة الذهبية" عن فيلمه "أنا، دانيال بلايك" (2016)، في الدورة الـ69 (11 ـ 22 مايو/ أيار 2016) لـ"مهرجان "كانّ" السينمائي، وهي المرة الثانية في حياته، بعد 10 أعوام فقط على أول "سعفة" له، عن "الريح التي تهزّ الشعير". أما "أنا، دانيال بلايك"، فتناول فيه ظلم النظام الاجتماعي، الذي يدفع الناس إلى الهاوية، بسرده حكاية رجل، في أواخر الخمسينيات من عمره، لا يجد كفالة مجتمعية مستحقة، بعد إصابته بنوبة قلبية وعجزه عن العمل، وأم عازبة تُعيل طفلين، وتحاول الحصول على إعانة بطالة من الدولة. وذلك في مسارين يتقاطع أحدهما مع الآخر. فيلمه هذا يُعتبر أكثر أفلامه حدّة وغضباً إزاء النظام السياسي الاقتصادي البريطاني.

فيلمه الأحدث، "عذراً، لم نجدك" (2019)، المشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ72 (14 ـ 25 مايو/ أيار 2019) لمهرجان "كانّ" أيضاً، عرض في افتتاح الدورة الـ12 (6 ـ 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019) لـ"بانوراما الفيلم الأوروبي" في القاهرة. إنّه امتداد للخطّ نفسه للمساءلة الغاضبة للنظام الاقتصادي والاجتماعي، عبر قصّة عائلة مؤلّفة من أب وأم ومراهق وطفلة، تعاني أزمة مالية طاحِنة. فالأب يكافح للعثور على وظيفة، وللقبول به كسائق يعمل في إيصال الطرود في إحدى الشركات الخاصة، عليه أن يعمل 16 ساعة يومياً، بشروط "غير آدمية" تؤثّر عليه وعلى أفراد عائلته، وعلى علاقته بهم. وإلا، سيكون البديل الملاحقة والسجن.

ما يميّز العمل الجديد لكِنْ لوتش ـ الذي يحمل الرقم 55 في مسيرته التلفزيونية والسينمائية، الروائية والوثائقية ـ كامنٌ في أنه أكثر رقّة وإنسانية من فيلمه السابق "أنا، دانيال بلايك". ورغم أن الغضب عنصر حاضِر بقوة، ويظهر أثره في مونولوغات تنتقد بعنف ومباشرة قوانين العمل، والنظام الرأسمالي، الذي يجعل الناس أقرب إلى "عبيد"، وفي رسوم "غرافيتي" للابن سيباستيان على جدران المدينة، فالفيلم نابض بتفاصيل يومية في حياة العائلة، وبكيفية تأثّرها بسبب الرأسمالية الفتّاكة. يمنح الفيلم أيضاً لحظات صفاء، عندما يأخذ الأب ريكي ابنته الطفلة ليزا معه إلى العمل، لإيصال طرود، وكيف يجعل ليومه معنى أجمل، رغم كلّ شيء، قبل "العودة إلى الأرض"، والتأثير في المشاهدين بشدّة، لأنّ قوانين العمل في الشركة تمنع حتّى تفاصيل إنسانية كهذه.

يُحذَّر ريكي من اصطحاب ابنته مجدّداً، ويُثار شعورٌ بالتعاطف لعدم قدرته على الاستئذان من العمل، حتّى في حالة استثنائية، كالقبض على ابنه، فيُجيبه صاحب العمل: "لا استثناءات في عملنا"، بالإضافة إلى حسم 100 جنيه استرليني عقوبة له عن تغيّبه عن العمل. هناك أيضاً مسألة التأمين، وكيف أنّ القانون لا يحميه، حتّى عند تعرّضه للسرقة والضرب العنيف والكسور المتفرّقة في جسده. مع ذلك، عليه الاستيقاظ صباحاً، والذهاب إلى العمل، لأن "لا استثناءات"، ومهما حدث فيوم الغياب بـ100 جنيه استرليني، بينما التوقّف عن العمل يعني السجن.

يحتفظ "عذراً، لم نجدك" بالضغط والغضب، وبتتالي مواقف درامية، تضع أبطاله في أسوأ مكان ممكن. كما يحتفظ بصوت عال لمخرج، أصبح في منتصف ثمانينيات عمره، ويريد قول كلّ شيء بأوضح صيغة ممكنة، لعل تغييراً يحصل في "وسيلة النضال الوحيدة التي أعرفها، وهي السينما"، بحسب تعبيره.

يملك الفيلم هذا كلّه. لكنه يملك أيضاً حكاية قوية، وسيناريو ذكياً، وقلب حياة وضعه كِنْ لوتش في تلك العائلة، لإثارة التأثير بشدة، مع مشاهدة ما يحدث لأفرادها، ما يجعله أفضل أفلامه منذ أعوام طويلة.
المساهمون