"لكل مخرج وطنان. وطنه الفعلي، ثم السينما الهوليوودية". مقولة للمخرج المجري ميلوش فورمان، ظلّ السينمائيّ المصري سمير سيف يُردّدها، كلّما لامه أو انتقده أحد بأنّه متأثّر بالسينما الأميركية. ومثلما ظلّ يُدافع عنها، مُعترفا بولعه بها، كان يستشهد بعدد من أشهر المخرجين المتأثّرين بسينما الغرب الأميركي، أمثال الياباني أكيرا كوروساوا، والهندي ساتياجيت راي، والألماني فيم فندرز.
"هدفي الأساسي تسلية الجمهور". مقولة أخرى تردّدت كثيرا في معظم حوارات سمير سيف، أشهر مخرجي الأكشن والعنف في السينما المصرية، المتوفّى ليلة 9 ديسمبر/ كانون الأول 2019، إثر أزمة قلبية مفاجئة، عن 72 عاما، أنجز خلالها 25 فيلما، في أنواع مختلفة، كالاستعراض والكوميديا والاجتماع السياسي، محقّقا مسلسلات تلفزيونية عديدة أيضا، لكنّه تميّز بأفلام العنف والحركة.
للناقد السينمائي المصري كمال رمزي رؤية مشوّقة، منشورة في كتابه "سمير سيف سحر الاختلاف"، حلّلت أثر البيئة الجغرافية على هذا الاختيار، بسبب جذوره العائلية، العائدة إلى أبنوب، في محافظة أسيوط: "وفق إحصاء للأمم المتحدة عام 1952، جاءت أبنوب في المرتبة الثانية بعد شيكاغو، في عدد جرائم القتل. الفرق بين المدينتين أنّ الجرائم في الصعيد يرتكبها أناس عاديون، بعضها من منطلق التربّص أو الثأر، وكان الطفل سمير سيف ينصت للحكايات والمواجهات التي يتم تناقلها، ويمتزج الحقيقي منها بالخيال، ويتحوّل إلى ما يُشبه الأساطير. بعضها قصص عن مطاردات المراكب برّا ونِيلا، وحكايات عن العصابات الهاربة في الجبل. إذا، ليست صدفة أنْ يصبح هذا الطفل في مقدّمة مخرجي الأكشن في مصر".
رغم ولادته في شبرا (القاهرة)، في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 1947، لوالد يعمل وكيلا لمصلحة بريد القاهرة، لم تنقطع صلة سمير سيف بأبنوب، حيث كان الجدّ يعمل في وزارة الأشغال هناك. وهناك أيضا توفّرت حكايات وأفلام، واكتساب مهارات. ففي زيارات إلى الجذور، شاهد أفلاما عديدة، في صالتين اثنتين كانتا تقدّمان 8 أفلام أسبوعيا. أما في شبرا، وبفضل جدّه عندما أحيل إلى التقاعد، وأحيانا عديدة بفضل خاله، طالب الطب المغرم بالسينما، تردّد سيف على صالات السينما في الحي نفسه، كما في الأحياء المجاورة، فشاهد أفلاما عديدة، ثم بدأ قراءة كتب سينمائية، فتحت له بابا واسعا على صناعة الفن السابع. فالكتب تحلّل عناصر الفيلم، وكتابة السيناريو، والممثل، والمولِّف، وواضع الموسيقى، والمخرج الواقف وراء هذه المواهب والمهن. أعجبه دور المخرج، وتمنّى أنْ يكون مخرجا.
كان من المتفوّقين. وهذا منحه فرصة الالتحاق بفصل "متفوّقي المتفوّقين" ومجانية التعليم، فتابع تفوّقه، والتحق بـ"جامعة القاهرة ـ كلية الاقتصاد والعلوم السياسية". لكن قلبه كان في "معهد السينما"، فتقدّم لاختبار القبول، وعندما نجح، انسحب من "جامعة القاهرة".
في شبابه، لم ينخرط في أيّ منظمة سياسية، متأثرا بتوصية توفيق الحكيم للفنانين، في كتابه "التعادلية"، التي تفيد بألّا ينضمّ الفنان إلى أيّ تنظيم سياسي، كي لا يفقد استقلاليته.
أول المؤثّرين فيه، حلمي حليم، الذي نشأت بينهما علاقة أبوّة، ورابطة إنسانية قوية، بدأت بإعطاء الأب كتبا له، ثم مناقشته فيها بشكلٍ معمّق. عرّفه على بعض أهم مخرجي السينما المصرية حينها، فعمل مع شادي عبد السلام أثناء اشتغاله على "الفلاح الفصيح" (1970). معه، انتبه سيف إلى الحسّ التشكيلي، الذي تمتّع به عبد السلام، وأدرك أنّ جمال التكوين وقوّته ليسا للإبهار والزينة، بل للتعبير بعمق عن المعنى والمحتوى. لذا، وافق سيف على أنْ يكون دوره عامل كلاكيت في "المومياء" (1974)، كما ظهر في لقطة منه، مرتديا زيّ مفتّش الآثار.
عمل مساعدا ليوسف شاهين، في النسخة الثانية من "الناس والنيل" (1968)، فتعلّم منه الإعداد الدقيق لـ"الديكوباج"، والإخلاص والتفاني في العمل. أثناء ذلك، تعرف على سعاد حسني، وتوطّدت الصداقة بينهما، وأيضا على زوجها، المخرج علي بدرخان. رشّحته سعاد للعمل كمساعد مخرج مع حسن الإمام، في "خلّي بالك من زوزو" (1972)، لكن الأخير لم يرد ذلك، لأنّ سيف محسوبٌ على مجموعة من منتقدي سينما الإمام. لكن، تحسّنت الأجواء بينهما لاحقا، فعمل سيف في أفلام عديدة له كمساعد أول، وتوطدت العلاقة بينهما، وصار كأنّه ابنه الرابع، إلى درجة أنّ حسن الإمام، في "السكرية" (1973)، كتب في الـ"جينيريك": مساعد المخرج "المخرج سمير سيف". لم ينسَ الأخير هذه اللفتة من أستاذه، فأهدى "شوارع من نار" (1984)، إليه وإلى نجيب محفوظ أيضا.
عمله مع نور الشريف في "السكرية" قرّب أحدهما من الآخر، مع أنّهما كانا معا في الأكاديمية نفسها، فهما أبناء جيل واحد (الشريف مولود عام 1946، قبل عام واحد من ولادة سيف). الأول ممثّل، والثاني مخرج. لكلّ منهما شخصيته وأحلامه وطموحه. شعرا أنّ عملهما معا يساعدهما على تحقيق تلك الأحلام. تحمّس نور، فأنتج له "دائرة الانتقام" (1977)، وأفلاما أخرى. هذا يوضح لماذا أخرج سيف 8 أفلام من بطولة نور الشريف، كـ"قطة على نار" (1977)، و"شوارع من نار"، و"آخر الرجال المحترمين" (1984). رقم لم يتكرّر مع أي ممثل آخر، باستثناء عادل إمام، الذي مثّل مع سيف في 8 أفلام أيضا.
بعد نجاح "دائرة الانتقام"، رغب نور الشريف في التغيير، كعادته، فأنتج "قطة على نار". بعده، أنجز سيف فيلمين متفاوتي المستوى، وبعيدين تماما عن الأكشن. هو نفسه لا يحبّ الحديث عنهما.
التفاصيل السابقة مروية على لسان سمير سيف، في كتاب كمال رمزي، الصادر قبل أعوام قليلة، بمناسبة تكريم المخرج الراحل. ورغم الاختلافات الواضحة بين مؤلّفه ورؤية المحتفَى به، إزاء بعض الأفلام، خصوصا "دائرة الانتقام"، إلّا أنّ الكتاب مكتوبٌ بحبّ شديد، وتقييم موضوعي، إذْ حاول رمزي أنْ يربط بين الخاص والعام. مثلا: لا يكتفي بتفسير أثر حكايات الصعيد وأساطيره على اختيار سيف الأكشن، بل يُضيف أنّ "ارتباط مسيرته بمزيد من أفلام العنف لم يكن مجرد اختيار ذاتي فقط، لكنّه ارتبط بتوجهات السينما المصرية آنذاك، وفي الوقت نفسه كانت تلك الأفلام تعبير عن انتشار العنف سلوكا ومزاجا في الواقع المصري".
هذا يُفسِّر لماذا لم يكرّر سمير سيف تجربة الأفلام الكوميدية. صحيح أنّ "غريب في بيتي" (1982)، لطيف ومرح وخفيف ومسل، لكن فيلميه الآخرين: "احترس من الخط" (1984)، مع عادل إمام، و"الشيطانة التي أحبتني" (1990)، مع محمد صبحي، لم يعرفا النجاح نفسه، فبدا سيف كأنّه "يلعب في أرضٍ غير أرضه"، كما حدث معه في الأفلام الاستعراضية. تجربته في "المتوحشة" (1979)، وهي تجربة استعراضية باهرة (تمثيل سعاد حسني ومحمود عبد العزيز)، لم تحقّق النجاح المتوقع، وعندما حاول تفسير فشل، أو عدم نجاح الفيلم، أرجعه إلى النهاية المأسوية (مقتل البطلة)، وهذا لم يَرِق للجمهور. تجارب سابقة لمخرجين كبار تؤكّد هذا.
بعد "المتوحشة"، ابتعد سمير سيف عن الأفلام الاستعراضية، التي لم تتوافق مع هواه. ثم حقّق "المشبوه" (1981)، الذي وصل فيه إلى أفضل مستوياته، بمساعدة سيناريو إبراهيم الموجي. فيه، توفّرت عناصر الإثارة، التي تُطلق العنان لإمكانياته، كالمطاردات والمواجهات الدامية والهروب والاكتشافات والصدف والتآمر والتهديد والتشويه والابتزاز، ثم الإنقاذ في اللحظات الأخيرة. اللافت للانتباه أنّ عادل إمام تمسّك بسمير سيف بعد "المشبوه"، الذي ظهر فيه بشكلٍ مختلف، مثبتا إمكانيات لديه لا علاقة لها بالكوميديا، علما أنّ إمام، حينها، كان "بطلا مطلقا" لأفلام كثيرة.