باب الوداع: الانجاز البصري وحده لا يكفي

19 نوفمبر 2015
من فيلم باب الوداع (فيسبوك)
+ الخط -

دون أي جمل طويلة في نصّ حواري مكتوب، وبثلاثة ممثلين فقط، وعدَّةِ أبياتٍ شعريّة، ومَشَاهِد بصرية متفرقة، حاول مخرجها أن يجعلها أقرب لتداعي وسقوط الذاكرة. أخرج كريم حنفي فيلمه الأول "باب الوداع"، مُخالفاً لكل ما هو سائد في السينما المصرية حاليّاً. وأهميّة الفيلم المبدئيَّة في الحقيقة، وقبل الدخول في أي تفاصيل تخصُّ صورته النهائية، هو في هذا الاختلاف الواضح وعدم التنازل الفني أمام ضغوطات الواقع السياسي والأمني والرقابي القاسي المفروضة على الفنانين في مصر. "باب الوداع" هو الفيلم المصري الوحيد المشارك في المسابقة الدولية ضمن فعاليات "مهرجان القاهرة السينمائي الدولي" في دورته الـ36.

 استغرق تصوير الفيلم 13 يوماً ولكن على مدار 4 سنوات، وذلك لما واجه العمل من صعوبات في الإنتاج.

أثر تاركوفسكي في سرد الطفولة

تداعي الذاكرة، هو التعريف الأفضلُ والأقربُ لصور الفيلم، يبدو حنفي متأثرًا جدًا بالمخرج الروسي المشهور أندريه تاركوفسكي، وخصوصًا في منهجه السينمائي النظري الذي يتعلق بأن الفنان غير مسؤول عن المعاني، والمهم هو المشاعر التي تثيرها الأفلام عن طريق الاستجابة الداخلية للمشاهد، كما كتب في كتابه الشهير النحت في الزمن (ترجمة أمين صالح).
وبالمثل، كان فيلم حنفي الذي يمكن أن يختلف الناس في توصيف ما يسردهُ بدقة وذلك لشدّة التجريد النظري. إذْ إنَّ فيلمه متأثّرٌ بشكل واضح بتاركوفسكي في فيلمه المرآة، The Mirror، من إنتاج عام 1975، الذي يسرد فيه صوراً وذكريات عن علاقته بوالدته وطفولته وحياته السابقة، تماماً كفيلم باب الوداع، الذي يمكن من صوره أن نعرف أنَّ التقاط الشيء الأساسي المعني به، هو ذكريات الطفولة، ومشاعره تجاه الأم والجدة.

أقرأ أيضاً: فرح خان: لا أعرف سوى فاتن حمامة وعمر الشريف

صور الفيلم هي إنجازه الحقيقي، إنجاز بصري بالكامل، كريم حنفي يعتني جداً بكل مشهد في هذا الفيلم، وكل لقطة فيه تبدو مرسومة فعلاً، العمل على النور والإضاءة الطبيعية والتشكيل بالظل والجسد. الديكور كذلك كجانب فني أساسي في خلق بيئة الفيلم، وما تمنحه لفكرة القِدَم والذاكرة والماضي. ملابِسُ الممثلين الثلاثة، وما تحتويه من معاني بصرية ملفتة، خصوصاً عندما يسير البطل بكنزةٍ حمراء تنطق وسط زرقة الحاضر وبهتان الماضي. عاب الفيلم فقط المبالغة في عملية تصحيح الألوان والتكنيكات البصرية التي جعلت الأمر يحتوي على بهرجة في بعض الأحيان. ولكن حتى مع ذلك، فهناك اعتناء وإنجاز حقيقي من حنفي، وأيضاً على الأخص من مدير التصوير الموهوب زكي عارف.


وعلى خلاف ذلك التفوق البصري، خصوصاً عن أي فيلم مصري مثيل في السنوات الأخيرة، الفيلم تائه جداً، وربما، وببعض القسوة، يحاول تقليد سينما تاركوفسكية يبدو واضحًا أنّه متأثّر بها، لكن، دون الوقوف على أرضية صلبة، ويمكننا محاولة طرح التحفظات الفنيّة الثلاثة عليه في نقاط مختلفة:

ضعف الاندماج مع المشاهد

ما هو المحرك الأساسي للفيلم؟ ما هي الرحلة التي نشترك ونتورط فيها مع المخرج؟ بالتأكيد ليس ضروريًا أن يكون لكل فيلم قصة محبوكة وواضحة. ولكن، بالتأكيد يجب على المشاهد أن يخوضَ في كلّ فيلم رحلته الخاصة. الفيلم مرتبك جداً بشأن المحرك، نظرياً الشاب هو الذي يتذكر، على الأرض تتداخل الأمور. نذهب مع الأم أحياناً، مع الجدة أحياناً، مع تداعيات يحركها الجانب البصري في أحيانٍ ثالثة، هذا الارتباكُ يقلل جداً من أي تواصل بين المتفرج والفيلم، من الصعب جداً أن يتّفق 10 أشخاص مثلاً في التوصيف الدقيق للرحلة التي ذهبوا فيها داخل "باب الوداع"، أو حتى في الاتفاق على أنّ المحرّك الأساسي للفيلم هو شخصيّة الابن.


الضعف التقني في عمليّة المونتاج

مونتاج الفيلم هو واحد من أكثر نقاط الضعف الواضحة جداً في رأيي، ما هو المبرر في أن أغلب مشاهد الفيلم تنتهي بـFade، ثم يُفتتح المشهد اللاحق بفيد جديد للصورة؟ حتى بالمنطق النظري المتعلق بالتداعي، الفيلم يتوقف كل بضع دقائق، إيقاعه البطيء، الذي يحاول مخرجه الحفاظ عليه، ينكسر مع كل فيد جديد، يتحول الأمر لجانب تقني بحت عن إنهاء كل لحظة، بدلاً من أن يكون جانباً من الإيقاع والتدفق المطلوب أحياناً للذاكرة.

صور بدون نص

من الصعب الحديث عن النص في فيلم مبني تماماً على الصور، ولكن من الصعب مراوغة أن نصّ الفيلم وتراتبية صوره لا يساعدان المتفرج على الدخول لعالمه. إلى أي مدى مثلاً كان كريم حنفي بحاجة إلى شخص آخر يكتب معه هذا الفيلم؟ شخص يسمح للتجربة الداخلية ألا تكون منغلقة على نفسها؟ وأن تكون أكثر رحابة للمتفرج لدرجة أن يجد نفسه داخلها؟
إجمالاً، الفيلم معتنى به جداً، صنعه مخرجه دون تنازل، وبرغبة حقيقية في أن يحكي تجربته الذاتيّة وألمه الداخلي. عَرْضُه ولو في شكل تجاري في مصر، حتى لو كان في قاعة واحدة، هو أمر مهم في إتاحة المجال لأفلام وتجارب بديلة بهذا القدر من الاختلاف والذاتية. كذلك، تكريم الفيلم على الإنجاز البصري لزكي عارف في مهرجان القاهرة الماضي، كان تكريماً مستحقاً وبالغ الأهمية، وهو أحد الأحجار التي ترمى في المياة الراكدة.

أقرأ أيضاً:امسك فنان: نقابة السينمائيين المستقلين تتحرّك

توقُّف الفيلم عند حدود الإنجاز البصري يقلّل من التجربة النهائية، ولكنه لا ينزع عنها الخصوصية، وكريم حنفي يحتاج مستقبلاً وبشدة أن يتجاوز الانشغال بالصورة فقط، إلى الانشغال بصلة عالم فيلمه بالمتفرج. السينما المصرية أيضاً تحتاج إلى مخرج على هذا القدر من الإتقان والإخلاص.
المساهمون