مغامراتي مع الألمانيّة

09 مارس 2016
لاجئون في المانيا (توبياس شوارز/فرانس برس)
+ الخط -
جلسنا على كراسي الدراسة وأخذنا نتبادل نظرات صامتة، البعض بدا متحمساً وآخرون لم يعجبهم أن يعودوا لمقاعد الدراسة من جديد. كان هذا يومنا الأول في معهد اللغة الألمانية. رجل ضخم يجلس أمامي، لا أرى منه إلّا شعره الأبيض، موطئاً رأسه يلوح به يميناً وشمالاً كمن يسلّم في نهاية صلاته، أسمع لسان حاله يقول "بعد الكبرة جبّة حمرة"، خيّل إلي أنه بعمر أبي، هممت أفتح معه حديثاً يسليه عن الحسرة، لولا أنّ مدير المعهد دخل.

رحّب بنا وأخذ يشرح عن الدورة، كنّا في كامل تركيزنا معه، بالأحرى مع المترجم؛ شاب سوري، مثلنا، كان يلبس دوره لأبعد الحدود، حتى خال نفسه مترجماً للجزيرة في بثٍّ مباشر، يعلو صوته تارة وينخفض في أخرى، ويخشن في عبارات محددة مثل"أهلاً بكم في ألمانيا".

المطلوب للتسجيل ورقتان، شرح عنهما مطولاً ولم نعرفهما، أخرج المدير نموذجاً عنهما من حقيبته، ورفع كلاً منهما في يد، كمن يرفع أعلام فريقه المفضل في لحظة انفعال على مدرج الملعب. مع هذا لم ينفع الأمر، كانتا تبدوان لنا نسختين لورقة واحدة، لم يكن أحدنا قادراً على تمييز ورقة ألمانيّة من أخرى. كشفنا عن سواعدنا، وهمّ كلٌ منّا ينبش في أوراقه، يسأله أحدهم: هذه هي؟ لا، إذاً ما هذه؟، موعد المحاكمة، حسناً...

اليوم كان السابع في دروس الألمانية، طوال الدروس الماضية كنّا نخجل من محاولة التحدث بالكلمات التي نعرفها بالألمانية، كنا قد حفظنا بعضها قبل الدورة، حفظناها بطريقتنا. لكننا اليوم كسرنا الحاجز، بالأحرى فجرناه. أبدعنا في لفظ الأحرف والكلمات، أعتقد أننا أخيراً تفوقنا على رهبة اللغة الألمانية، وتفوقنا على أنفسنا. ليس هذا فحسب، لقد تكلمنا الألمانية دون أن نفقد هويتنا؛ الشامي تكلّم الألمانية الشامية، وابن دير الزور تكلم الألمانية الديرية، أما أنا - الحلبي - فتكلمت الألمانية الثقيلة. الأستاذ كان يغلق أذنيه بين الفينة والأخرى، وبعد نحو ساعتين نظر إلينا بعينين دامعتين وقال "ويلكم ريفيوجيز".

أنهينا اليوم الدرس الخامس والعشرين، خرجت من الدرس بثقة فائضة، شعرت أنني بتّ مستعداً لأتعامل بالألمانية، فقررت خوض التجرية، ذهبت إلى ذلك المجمع التجاري الذي اعتدت أن أشتري منه كالصم البكم، حتى أنّ أحداً لم يلحظ أني أجنبي. اشتريت بعض الحاجيات وقررت أن أتوجه للمحاسبة بدلاً من الدفع الآلي، وقفت على الدور، ولاحظت سريعاً أن شاشة عرض السعر كانت مغلقة، ابتسمت بثقة وقلت لنفسي: لا بأس لا يهمني الأمر، ستقول لي السعر وسأفهمه وأدفع.

حان دوري، مرّرت الحاجيات على اللاقط الضوئي الذي كان يصدر صوتاً كدقات قلبي، ثم تكلمت، لم أكن متأكداً تماماً إن لفظت لي السعر أم لا، وقفت جامداً أنظر إليها تاركاً فمي نصف مفتوح ولم أتفوه بحرف. رفعت حاجبيها، فأدركت الأمر، قلت لها : عفواً أعيدي لي الرقم من فضلك، فأعادته، وكأني لم أسمع شيئاً، رفعت نظرتي للأعلى ورحت أعد الأرقام في عقلي، و لا فائدة، لكني قرّرت ألا أستسلم، رغم تلك السيدة العجوز التي كانت تقف على الدور خلفي وتبدي تذمرها.

طلبت من المحاسبة بخجل أن تعيده مرّة أخرى، أعادته برحابة صدر، ثم تكلمت بضع كلمات بعده، شعرت أن معناها: هيّا حاول أن تتذكر، يمكنك فعلها! شعرت بالخجل أكثر، احمر وجهي، وتيبّست يداي، أشرت لها مستسلماً على شاشتها لأرى الرقم، فأخرجت نفساً قوياً كان محبوساً في صدرها، وأدارت لي الشاشة.

حملت أغراضي وخرجت من الباب وصوت أمي يتردد في أذني: "شاطر في أن تذهب إلى المدرسة، وتعود من المدرسة، إن لم تكن فالحاً، الأفضل أن تتعلم صنعة".


اقرأ أيضاً: 16 عبارة لا تقولها إلا الأم العربية
المساهمون