بيرن السويسرية... مدينة عصرية تتمسك بالتاريخ

22 نوفمبر 2017
بيرن مدينة غنية بالتاريخ (فرانس برس)
+ الخط -
استيقظت من حلم "أرطغرل"، الذي أراه كل أسبوع، وأنا على أبواب العاصمة السويسرية بيرن؛ "كفاتح" دون سلاح ودون خيل، لأجد نفسي وجها لوجه مع أحد آلهة أوروبا، قبل أن تسود الكنيسة وتشيطنه؛ إنه الإله "الدب"، الذي يعني "بيرن" باللغة الألمانية المحلية. وكعادة الإنسان بإطلاق اسم من يعبده أطلق السويسريون اسم "الدب" على مدينتهم الوليدة التي أسسها الدوق زارينجن على ضفاف نهر الآر عام 1191 ميلادية، النهر، الذي يطوق المدينة القديمة، كأفعى "خَيّرة تقوم على حراسة كنوز الإنسان وممتلكاته"، كما تقول بعض الأساطير. 

قبل تجاوز الجسر القديم الذي يربط المدينة التاريخة بالعالم الخارجي، لا بد للزائر الفضولي من المرور في المحمية الطبيعية التي يعيش فيها قطيع من الدببة التي تحرس المدينة.

ربما لذلك زين سكان بيرن شوارع مدينتهم وساحاتها ونوافيرها، بتماثيل لوجهائهم، وبقرب كل واحد منهم تمثال لدب أصغر حجما، وفوقهما علم بيرن وشعارها المكون من صورة الدب الإله أو شفيع المدينة والبشر، وهكذا يستطيع الزائر معرفة قيمة الدب المعنوية. ففي الوقت الذي تراجع فيه نفوذ الكنسية بقي الشفيع "الدب" حاضرا في كل زوايا المدينة، ليس بالمعنى الديني، وإنما الثقافي والتاريخي؛ الذي تحرص عليه المدينة حتى الآن وجعلها متميزة عالميا.

بعد الجسر مباشرة رأيت كنيسة قديمة، فدخلت ساحتها لأكتشف أن تمثالا كبيرا لشخص ما وبجانبه تمثال دب، وعند باب الكنيسة وجدت شاب وصبية كانا منهمكين في ترتيب زينة عرس، وهذا عملهما كما يبدو، سألتهما هي الكنيسة بروتستانتية أم كاثوليكية، نظرا إلى بعضهما بحيرة، ثم قالا :لا نعرف، قلت لهما هل أنتما كاثوليك أو بروتستانت؟ قالا: بعد تبادل نظرات استغراب مترافقة مع ابتسامة: لا نعرف.

كان الأهم بنظرهما، كما فهمت، إنجاز العمل الموكل لهما، لتحصيل قوت عيشهم. كان أمامنا ستة كيلومترات مزدحمة بالتاريخ، وهي طول الشوارع التي تمتد وتتعرج مع امتداد المدينة القديمة وتعرجاتها، وهي مدرجة في لائحة التراث العالمي للإنسانية تحت رعاية منظمة يونسكو، ويجب على من يريد عيش التاريخ، سيرها على القدمين.



وأنا أسير في بداية الشارع الرئيسي كنت أفكر في الموضوع الذي سأكتبه، وتساءلت: بما أنني لست مختصا بالتاريخ، ولست دليلا سياحيا، فعَن ماذا سأكتب؟ وإلى أن حسمت أمري، كان قد مضى شهران على زيارتي للمدينة، قرأت خلالهما عشرات الموضوعات عنها، مما جعلني أتخلى عن فكرة لعب دور الدليل السياحي، فمن يريد معرفة تفاصيل سياحية ما عليه إلا زيارة مكتبة السيد "غوغل"، حيث سيجد ضالته وزيادة، أما أنا فقد سحرني تداخل التاريخ بالحاضر، حتى كنت أشك، في بعض اللحظات، وأسأل نفسي، عند مشاهدة الأرصفة المسقوفة، ونمط البناء، والنوافذ والأقبية التي تحولت الى محلات تجارية: هل أنا في القرن الثالث عشر أم في القرن الخامس عشر، أم في التاسع عشر، أم إنني في القرن الواحد والعشرين؟ هل أنا في البازار الكبير في إسطنبول، أم في أسواق حلب القديمة التي دمرها ابن الأسد، أم في برج غلطا؟

كنت أسير في الشارع، أتوقف، أحيانا، لتأمل نافورة مياه يحرسها تمثال نبيل ألماني، من القرون الوسطى، من بيرن، وبقربه دب يحميه ويحرسه، ربما، من "صَيْبَة عين" أو من ضغينة آتية من الطرف الفرنسي أو الإنكليزي أو السلجوقي.

أو من حلم يضغط عليه، كما على كل النبلاء الأوروبيين، بالاشتراك في الحملة الصليبية الثالثة، التي دعا إليها البابا غريغوريوس الثامن، عام 1187، والتي شارك فيها الملك الألماني فريدريك برباروسا وغيره من زعماء أوروبا بعد طرد الصليبيين من القدس، ودخول صلاح الدين الايوبي الى المدينة المقدسة.

كانت الأسئلة كثيرة ومتداخلة كما هي تداخل عناصر الحياة، استوقفتني سيارة مرسيدس خضراء، تشبه سيارة هتلر التي كنا نراها في الأفلام التي كانت تسعى لتشويه صورته، ورغم موديلها القديم إلا أنها تبدو جديدة وكأنها خرجت حديثا من المعمل، أمامها تماما، عشرات الدراجات تحتل موقفا مخصصا لها، دون أي تنافس، دون تبجيل للثمين أو الحط من قيمة زهيد الثمن.

ذكرني الشارع النظيف، والنهر النظيف، برسالة وصلت إلى أحد الأصدقاء من خاله، الذي هاجر في أول السبعينيات إلى السويد، قال له فيها: أشتهي أن يتسخ حذائي كي أمسحه يا خال، ما هذا البلد الغريب؟


في بيرن فتشت عامدا متعمدا عن ورقة مرمية في الشارع فلم أجد. في سوق الخضرة، الذي يقام كل يوم سبت للفلاحين، لبيع محاصيلهم الزراعية، رأيت سيدة تحمل بيدها وعاء ماء انتهت من استخدامه، فحملته إلى أقرب مصرف للمياه، وصبت الماء المتبقي فيه وكأنها تصب زيتا في وعاء. كان يمكن أن ترشقه على حجر الشارع، أو تحت طاولتها أو..أو.. ولكنها تصرفت وكأنها في بيتها، وهذا ما جعل هذه البيوت، وهذه المدينة تعيش بصحة جيدة أكثر من ثمانمائة عام. عندما رأيت هذا المشهد، تأكدت من فشل ”غزوتي“ البيرنية، لأن الإنسان الذي يرى كل حبة تراب في وطنه هي له وللجميع، لن يستطيع أحد أن ينتصر عليه، لذلك لم يكن موقع بيرن بين الجبال هو ما حماها من غزوات خارجية، وإنما سلوك البشر وطريقة تفكيرهم هو ما حفظ سويسرا وبيرن من الاعتداءات الخارجية.

كان الشارع الكبير ينتهي ببرج الساعة الرائع، الذي كان أيضا عبارة عن بوابة للمدينة في وقت من الأوقات. بعد مئات السنين ما زالت دقات الساعة تسمع كل ساعة، وما زال الناس يصعدون الى البرج لرؤية مهارة الصناعة ودقتها وجماليتها. غير بعيد عن برج الساعة كان مبنى البرلمان السويسري، محروسا بثلاث باقات ضخمة من الورد الطبيعي، وكانت أبوابه مفتوحة للجميع، ليس هناك من يسألك عن هويتك، أو ماذا تريد، أو تسمع من جندي كلمة "انقلع ولاه"، أو تسمع صفعة مرمية على وجه أحد الناس.

لم يكن عندنا متسع من الوقت للعب الشطرنج في الساحة المخصصة لذلك وراء مبنى البرلمان، فمررنا مرور الكرام وتابعنا سيرنا الى حيث تركنا سيارتنا. كان متحف انشتاين غير بعيد ولكننا تجاهلنا النداء، فقد شبعنا من التنقل بين الحاضر والماضي، والذي لا يفصل بينهما في بيرن، إلا حدود غيمة عابرة.

حزنت على نفسي، وعلى جدودي العرب والمسلمين الذين فشلوا في غزواتهم للحاضر، واكتفوا بانتصاراتهم في الماضي البعيد. كل انبهارنا بما رأيناه لم ينسنا أن في بيرن شركة من أكبر الشركات العالمية لتصنيع وبيع السلاح، لبلداننا ولغيرنا، ثمنه دائما أرواح الأبرياء والمظلومين، كما هو حال الشعب السوري.

المساهمون