شارل أزنافور ممثلاً: مهنةٌ ليست له

05 أكتوبر 2018
شارل أزنافور (Getty)
+ الخط -
تبدو علاقة الفنان الفرنسي شارل أزنافور بالسينما كأنها مقبلة من عالمٍ آخر بالنسبة إلى كثيرين. شدّة حضوره الغنائي والموسيقيّ طاغية على ما عداها من نتاجٍ فني. أفلامٌ كثيرة ـ يمثّل فيها أدوارًا مختلفة ـ تبقى أقلّ تأثيرًا في أجيالٍ متلاحقة تستمع إلى إبداعه المتمثّل بصوتٍ ونبرة وأداء، بالتساوي مع كلمةٍ ولحن وتوزيع. اشتغاله مع الفرنسيين فرانسوا تروفو وكلود شابرول وكلود لولوش والكندي آتوم إغويان مثلاً يحضر في ذاكرة مهتمّين بالفن السابع، ومتابعين حراكه المتنوّع.
لكن شيئًا من ماضيه يشي بميلٍ إلى السينما منذ طفولته، إذْ تقول إحدى حكاياته القديمة إنّ أستاذًا في المدرسة "تنبّأ" له بمصيرٍ كهذا: "ذات يوم، ستُصبح ممثلاً". منذ بلوغه 9 أعوام، يبدأ التمثيل على خشبة المسرح المدرسيّ، وبعد 5 أعوام، يُشارك في فيلمٍ "يُصبح لاحقًا إحدى التُحف السينمائية الفرنسية في مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية"، وهو "مفقودو سانت آجيل" (1938) لكريستيان جاك.
هذا جزءٌ من تاريخٍ حافلٍ بالنتاجات والتبدّلات والمعاينات. تاريخ شخصي وتاريخ عام. أرمني الأصل متجّذر في هذا الأصل المُقيم في دائرة الخراب. مولودٌ في باريس (22 مايو/ أيار 1924) ومرتبطٌ بها لغة وقولاً وثقافة وعيشًا والتزامًا وسلوكًا وإبداعًا. هذا أساسيّ. فرنسا، حيث سيُفارق الحياة (مورييه ـ بوش دو رون، مقاطعة "بروفانس ـ آلب ـ كوت دازور"، 1 أكتوبر/ تشرين الأول 2018)، ستكون الفعل الثقافي ـ الحياتي الذي يُعينه على اختبار التمثيل مع بعض صانعي مجدها السينمائي وانقلاباتها الجمالية والدرامية والفنية، والذي يُتيح له تنويع شخصيات وأدوار كمن يبحث عن تسليةٍ أو تمتينٍ لنمط تعبيري مختلف لاهتماماته الأساسية.
يُجمع كثيرون على أن "أطلقوا النار على عازف البيانو" (1960) لتروفو (1932 ـ 1984) يبقى الأبرز والأهمّ في سيرته السينمائية الممتدة على نحو 60 فيلمًا (وأعمال تلفزيونية مختلفة) في 70 عامًا. سيحضر في "الطبل" (1979) للألماني فولكر شلوندورف (1939)، المأخوذ من رواية بالعنوان نفسه (1959) للألماني غونتر غراس (1927 ـ 2015). سيُشارك البريطاني مالكوم ماكدويل (1943) في "إلْ مايسترو" (1989) للبلجيكية ماريون هانسل (1949). سيكون في واجهة المشهد المصنوع على يديّ آتوم إغويان (1960) في "آرارات" (2002). سيمنح صوته لإحدى شخصيات فيلم التحريك "في الأعلى" (2009) للأميركي بيتر دوكتر (1968). سيتعاون مع كلود لولوش (1937) مرّتين: "إديث ومارسيل" (1982) و"تحيا الحياة" (1983)، وفيه يقف إلى جانب الرائعين شارلوت غاينسبور (1946) وميشال بيكولي (1925).
له اختبار تمثيلي مع جان كوكتو (1889 ـ 1963) في "وصيّة أورفي" (1959)، ومع هنري فيرنويل (1920 ـ 2002) في "تحرير الأسود" (1961). هذه أمثلة لن تُلغي أفعالاً تمثيلية أخرى مع أنماط ومسالك، رغم أن أداءه التمثيلي لن يتفوّق على جماليات غنائه. رحيله دافعٌ إلى استعادة نماذج سينمائية من دون التغاضي عن بساطته التمثيلية الممتلكة، في الوقت نفسه، شيئًا متواضعًا للغاية من حرفية أداء وتعبير بصري. موصوفٌ هو بأنه "حدسيّ" و"فصيح"، وبأنه "كئيبٌ أحيانًا". لكنه، إلى هذا، قادرٌ على إرضاء سينمائيين شباب بالقدر نفسه الذي يُثير حشرية محنّكين في صناعة الصورة تدفعهم إلى فهم ما يمتلكه من قدرة تمنحهم ما يرغبون فيه ضمن أطر سينمائية مُحدّدة بمشاريعهم الخاصّة.
هو يُشبه موريس شوفالييه (1888 ـ 1972) وإيف مونتان (1921 ـ 1991) في جمع الغناء بالتمثيل، في زمنٍ سينمائيّ منفتح على اختبارات تنهل من الفنون كلّها كي تُنتج تُحفًا جمالية تتنوّع بتنوّع الأشكال الفيلمية ومضامينها وحكاياتها. فـ"ستينيات القرن الـ20 شاهدةٌ على إقامة روابط متينة بين سينمائيين عديدين والأغنية، إما بجعل ممثلات يُغنّين في أفلامهم ـ كما في تجربة الثنائي آنًا كارينا (1940) وجان ـ لوك غودار (1930) ـ وإما بتوظيف مغنّين كممثلين في أفلامهم، بدءًا من شارل أزنافور" (فيرونيك مورتاني، الموقع الإلكتروني للصحيفة اليومية الفرنسية "لو موند"، 1 أكتوبر/ تشرين الأول 2018).
لكن القول النقديّ لن يذهب بعيدًا في كشف ما هو منكشفٌ منذ تورّطه الفنيّ في التمثيل السينمائيّ. هذا الأخير نوع من تنفيسٍ إضافيّ لطاقات يمتلكها الفنان ويُترجمها إلى بوحٍ تنطق بها شخصيات يؤدّيها أمام الكاميرا بنَفَسٍ مسرحيّ غالبًا. فهو غير ممتلك شكلاً خارجيًا يُتيح له أن يكون "النجم الوسيم والأول" على الشاشة الكبيرة، وصوته غير النمطيّ (أو بالأحرى "غير الملائم لنبرة الصدى السينمائيّ") وقامته القصيرة يحولان دون تبوّئه المراكز الأمامية في النتاج السينمائيّ (ديفيد ميكانوفسكي، الموقع الإلكتروني لـ"لو بوان. بوب" في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول 2018).
ألم يُحدِّد أزنافور نفسه، ذات مرة (2017)، أسباب عدم تخلّيه عن الغناء من أجل السينما؟ "أدركتُ سريعًا أن مهنة الممثل معتمدة على عوامل عديدة لن يكون سهلاً السيطرة عليها. منذ ذلك الحين، اخترتُ ـ من دون ندمٍ أو تأسّفٍ ـ الحرية الممنوحة لمؤلّف الأغاني الذي كنتُه يومها".
المساهمون