أتت وثبة الدراما السورية منذ نهاية التسعينيّات ببُشرى صناعة ترفيهية واعدة. عوامل عديدة أسهمت في ازدهارها، كالانفتاح التدريجي على اقتصاد السوق الذي سمح بحيّز من الخصخصة والتحرّر من بلادة الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون. أيضاً، تكاثر الفضائيات العربية، وتراكمية في الطاقات البشرية، بدءاً بكتابة النص، مروراً بالتمثيل والإخراج، انتهاءً بالتسويق والإنتاج.
رافقت الوثبة تلك -بقدر ما أسست لها وتمخضت عنها- موسيقى تصويرية؛ كان المؤلف رعد خلَف، ولا يزال، أحد نجومها البارزين. إقامته في دمشق طيلة سيرته المهنية، حيث عمل منذ الثمانينيّات مدرسّاً في المعهد العربي والعالي للموسيقى، ثم عازف كمان أول في الفرقة السمفونية الوطنية. أسس هذا علاقةً وطيدة جمعته بالوسط الثقافي المسرحي والتلفزيوني أثمرت وما تزال مُثمرة إلى اليوم.
خلفية خلَف الأسرية (والده حميد البصري مُتخصصٌ بالموسيقى العربية، ووالدته شوقيّة العطار مُغنية)، أكسبته وعياً بالتراث حماه من الغربة الثقافية. بالمقابل، خلفيته الأكاديمية، إذ هو مُتخرّجٌ من جامعة "غنيسن" المرموقة في العاصمة الروسية موسكو، في عزف الكمان الكلاسيكي، والعلوم الموسيقية، جعلت من موسيقاه تتناهى سبقاً سمعياً إلى آذان المُشاهدين والمستمعين العرب.
هذا التكوين الفريد داخل الوسط الفنّي الصاعد جعله من رواد الجيل الثاني من مؤلفي شارات المسلسلات والأصوات المُرافقة soundtrack. حرّرَ خلَف شارة المُسلسل العربي من الأغنية. حيث ركّز -وقبله رائد الجيل الأول السوري إبراهيم جودت- قدر ما سمح به المنتِج، على الموسيقى الآلية حاملاً درامياً. عوضاً عن الاكتفاء بتسجيل أغنية لشارة ثم تقطيعها لترافق المشاهد واللقطات.
بدا ذلك جليّاً منذ مُشاركاته الدرامية المُبكّرة. المسلسل التاريخي، "الأرواح المُهاجرة" (2002) من إخراج التونسي الراحل شوقي الماجري، وبطولة عبّاس النوري وصبا مبارك. الشارة موسيقى صرفة، تسري وفق نسق معقد من التعارض الإيقاعي syncopation. طرفاه الكمان والتشيلّو. الصوت البشري حاضر ضمن كورال يُغني من دون كلام. فيما أورغن مُبرمج إلكترونياً يُبطّن النسيج الهارموني.
مسلسل "أسمهان"، إنتاج 2008 وإخراج الماجري أيضاً، وبطولة سلاف فواخرجي وفراس ابراهيم. لا يكتفي خلَف بتجاوز تقليد الأغنية/الشارة، وإنما يحوّل أغاني أسمهان إلى محض موسيقى آلية. من جديد؛ إيحاءٌ بالغناء من دون كلام، حاصل جمع صوتين نسائيين مُتباعدين، صدىً لأغنية "ليالي الأنس في فيينّا"، تتبعها وتريّات وإيقاعات متعارضة، بأسلوب موسيقى Film noir البوليسية المُثيرة.
يستخدم خلَف سلسلة من مقاطع أشهر أغاني الراحلة أسمهان كمواضيع Themes لجُمل موسيقية تعزفها الوتريّات، تتواتر في الظهور وتتناوب في التفاعل مع جو الإثارة العام، مُشيرةً إلى أسمهانية الحدث، من دون الاستسهال بوساطة إعادة الأغاني كما هي. الاستعادة، إذن، سيكولوجية في العمق وليست تجسيمية على السطح. بذلك، يُقدم خلَف الموسيقى بوصفها عنصراً درامياً، وليس ديكوراً صوتياً.
الغناء، وإن بان في مسلسل "الظاهر بيبرس" (إخراج محمد عزيزية، بطولة عابد فهد وسوزان نجم الدين)، بيد أنه مكَوْرس أيضاً، وظيفته درامية وليست طربية. على إيقاع عسكري رتيب بنكهة "البوليرو" وبصحبة مساحات مينيمالية رحبة، تتراتب الأصوات الكورالية مع بعضها وتتداخل مع خطوط الكمان المُمتدة. توحي بنَفس قروسطي يُذكّر بكارمينا بورانا للمؤلف الألماني كارل أورف.
الأبّهة الموسيقية تتجلّى في "لورانس العرب" (إنتاج 2008 بطولة جهاد سعد ومرح جبر). يستفيد خلَف من رُقيّ المبرمَجات الرقمية والمؤثرات الصوتية، التي بات بالإمكان توظيفها في تقديم مادة أوركسترالية مُتكاملة، تُحاكي في بعض أجوائها موسيقى الأفلام الهوليووديّة الضخمة، لجهة تعقيد اللغة الهارمونية وتوزيع الجاز لآلات النفخ غير المعهود لدى الأذن العربية، كبوق الهورن والترومبون.
بيئة الموسيقى الشرقية تظلّ خلفيةَ رعد خلَف وفي مقدوره التام والمُستمر. تظهر أدوات التلحين بالأسلوب الشرقي بوضوح في مسلسل آخر للماجري هو "عمر الخيام" (إنتاج 2002 بطولة جهاد سعد وسمر سامي). اللحن الطويل والمُمتد مُسندٌ إلى وتريات موحدّة النغمة، على إيقاع المزهر. تؤدي الزخرفة اللحنية التقليدية في تماهٍ واتّساق. فيما تظل الخلفية الهارمونية درامية مشوّقة.
يُحاكي خلَف البيئة التي تدور فيها مُجريات الأحداث. أجواء "عمر الخيام" فارسية، يتناهى السنطور والطار، والناي التركي. مقابلَ الشارة الغنائية، تُسمع في طيّات اللقطات والمشاهد مقاطع موسيقية متنوعة، ألحان مهرمنة للنفخيات ومرافقة للحدث الدرامي، ليست بالضرورة من صلب مادة الشارة، تلعب دوراً أساساً في جمال الصورة ورُقيّ اللغة السينمائية لذلك العمل التلفزيوني المُتميّز.
السويّة التي تمتّع بها العازفون أُضيفت عاملاً إلى بروز موسيقى رعد خلَف التصويرية. لا سيما أولئك من طلبة وخرّيجي المعهد العالي للموسيقى في دمشق، الذين كان لخَلف دور في إعداد بعضهم. فتميّزت أطقم الوتريّات في أداء انسجامات مُعقدّة وأشكال إيقاعية مُركّبة. وُزّعت لها ألحان مُرتفعة لم تألفها الأعمال المُبكّرة التي سُجّلت في استديوهات الإذاعة السورية والخاصة الأخرى.
الحسّ الدرامي في مقاربات رعد خلَف الموسيقية نابع من خبرة شخصية في إعداد وإدارة وإنتاج أعمال مسرح غنائي تُحاكي جنس الميوزيكال. خبرته كانت قد تبلورت في جو الكتابة للمسرح قبل التلفزيون. صلاته الفنية والشخصية المُباشرة بالوسط الفني، سواءً السوري أو العربي والعراقي في المهجر، عمّقت من فهمه لدور الموسيقى التصويرية الرافد والمعين، والمتجاوز للتغليف والتزيين.
تجاوزٌ، جعل موسيقاه تصويرية خالصة، تخدم القصة، تستلهم بيئتها، ولا تُقدّم نفسها قيمة مستقلة أو مُضافة. ذلك مكمن قوّتها من جهة، ومن جهة سبب غفلة آذان المشاهدين العرب عنها. هي لا تَبثّ أغنية يحفظها الكبار والصغار، ولا لحناً يُذكّر بعنوان المسلسل من دون أن يمُتّ بأي صلة إلى ما يدور به. إنما هي، وبالتالي، موسيقى غائبة عن الأذن، حاضرة في العين. كما ينبغي لها أن تكون.