أصغر فرهادي يحبّ جده. عرف حكاية ممرضة ربطت مُصاباً بمرض ألزهايمر بحبلٍ، كي تستطيع مغادرة المنزل لوقتٍ قليل. تأثّر بأجواءٍ سادت بعد إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية في إيران عام 2009. المخرج الإيراني، الذي بات عالمياً، يسرد تأثيرات وأفكاراً وأسلوب عمل في فيلم وثائقي عن عمله الأشهر (وليس الأجمل) "انفصال نادر عن سيمين" (2011)، الفائز بجوائز عدّة، أشهرها (وليس أكثرها تعبيراً) "أوسكار" أفضل فيلم أجنبي (2012).
أجواء أخرى تأثّر بها، يذكرها في الوثائقيّ "مَشاهد من انفصال" للإيراني وحيد صداقت (2019)، المُكرّس لسرد تجربته في "انفصال" تحديداً (خامس أفلامه)، لأنّ الإيرانيين يعتبرونه الأشهر والأهمّ لفوزه بـ"أوسكار"، وبـ"الدبّ الذهبي ـ أفضل فيلم" و"الدبّ الفضي أفضل ممثّلة وممثّل" (للممثلات والممثلين جميعهم) في الدورة الـ61 (10 ـ 20 فبراير/ شباط 2011) لـ"مهرجان برلين السينمائي"، و"سيزار" أفضل فيلم أجنبي (2012) وغيرها. وأيضاً، لأنّه الفيلم ما قبل الأخير لفرهادي المُصوّر في إيران، قبل انتقاله إلى فرنسا لتصوير "الماضي" (2013)، ثم إسبانيا لتحقيق "الجميع يعرفون" (2018). أو ربما لكونه فيلماً ممتعاً يُعبّر تماماً عن أسلوبه في الكتابة والإخراج.
"مَشاهد من انفصال" ـ المُشارك في "سوق الفيلم"، في الدورة الـ51 (17 إبريل/ نيسان ـ 2 مايو/ أيار 2020) لمهرجان "رؤى الواقع" (سويسرا) ـ يتابع طريقة فرهادي في صُنع الأفلام، منذ تشكّل الفكرة وكتابة السيناريو إلى الـ"بروفات" الطويلة مع الممثلين قبل التصوير، ثم التصوير والمونتاج. الوثائقيّ ـ الذي لا يغفل لقطات توزيع الجوائز الكبرى لـ"انفصال" ـ مُقسّم بترتيب، ويعتمد سيناريو مخططاً ومراحل يسير عليها، من دون أنْ يعني هذا جموداً أو تقييداً، فالموضوع نفسه مُشوّق. صداقت يمنح فرهادي مساحة من الحرية، من دون أنْ يفوته تفصيل أو يفلت منه خطّ سير أو يترك شيئاً للصدفة، تماماً كما يفعل فرهادي في أفلامه. هناك تقديم أوّل، ثم اقتراب تدريجي من شخصية فرهادي (في العمل فقط) ومراحل إنجاز أفلامه، يُرافقه فيها مُستعيناً بمقاطع عدّة من التحضيرات والـ"بروفات" مع الممثلين، تُظهِر كيف يصل فرهادي في النهاية إلى اللقطة المثلى والأداء الأفضل.
اقــرأ أيضاً
ككثيرين غيره، يُسجّل فرهادي ملاحظات عن مُشاهداته وتأمّلاته على أوراق صغيرة، ثم يجمعها ويرتّبها بشكلٍ تسلسلي زمني أو حكائي. تزور كاميرا صداقت مكتبه، وتُصوّر قصاصات معلّقة على لوح في صفين. يزور فرهادي المحكمة الشرعية مرات عدّة، حيث يلمس أجواء غريبة يُسجّلها ويربط بينها وبين ما حصل في إيران بعد الانتخابات الرئاسية عام 2009 (فوز محمود أحمدي نجاد للمرّة الثانية)، ومع ما سمّاه "هذه الحرب"، التي قامت بين مختلف طبقات المجتمع، وانتهت إلى الشارع، وهذا "الصراع" بين طبقتين تواجه إحداهما الأخرى: أولى تقليدية تنظر إلى الماضي وثانية تنظر إلى العالم الجديد، وترفض ما يحدث في إيران. ملاحظاته القصيرة حول الصراع بين الطبقات حدّدت موضوع "انفصال نادر عن سيمين".
يكتب فرهادي عن ما يُشاهده ويمسّه من أحداث، فتُصبح القصاصات لعبة "بازل"، كما يصفها، تكون "شرارة" يَبني عليها. مثلاً: "البحث أكثر عن معلومات حول ألزهايمر". ثم يبحث عن موقع للتصوير، يُحدّده تماماً في مخيّلته قبل أنْ يرسمه على الورق. يريد أشياء محدّدة لا يحيد عنها، هي في "انفصال" بيت عائلة من الطبقة المتوسطة في طهران، فالقصّة تعتمد على هذا. يرسم خرائط، كبهوٍ في الوسط مليء بالنوافذ الداخلية والخارجية، لتصوير مشاهد تجري فصولها خلف الزجاج. في الأمكنة، يلعب فرهادي على إثارة انفعالات أبطاله وإحاطتهم بما يساعد على تعبير يخدم الدور. في غرفة الأب المُصاب بألزهايمر، وضع للممثل العجوز صورة أمه وأشيائه الخاصة، وكلّ ما يثير ذكرياته، كالراديو والساعة.
ينتقل الوثائقي إلى اختيار الممثلين، في قسم خصّص له مَشاهد كثيرة. بعد السرد والحبكة الدرامية، تلعب إدارة الممثلين دوراً محورياً في أفلام فرهادي، الذي يدير ممثليه ببراعة. يروي فرهادي إصراره على إيجاد من يؤدّي الدور كما رسمه تماماً، واستعداده لإيقاف العمل إنْ لم يحصل على ما يُريد. يتوقّف عند دور شخصية الخادمة رضية، واصفاً إياه بأنّه "أعزّ" دور كتبه، وقائلاً إنّ الشخصية بالنسبة إليه تكون "حقيقية جداً حين تقع في معضلة". يُصرّ على رؤية سارة بيات أمامه وليس في دور ما. أحبّ بحّة صوتها والحزن الذي فيه. أما زوجها حُجّت، فشهاب حسيني الوسيم مفاجئ له في دور الرجل الشعبي العنيف. هو نفسه لم يكن مقتنعاً بملاءمته للدور، لكنّ فرهادي أصرّ إلى درجة بات يتصرّف معها بحسب ردود فعل الشخصية. يظهر هذا في لقطةٍ ينفعل فيها حسيني تماماً ويضرب رأسه بالباب فيجرحه، كما لو أنّه الشخصية بحدّ ذاتها.
لم يكن شهاب حسيني الوحيد في دور مخالف للصورة المعروف عنها في السينما الإيرانية، فهناك ليلى حاتمي أيضاً، مع "صورتها الملائكية وخجلها ولطفها". فرهادي أراد تغيير هذا. يمرّر صداقت مَشاهد "بروفات" تُعبّر عن ما يقوله فرهادي عن الشخصية، وتكشف أسلوب عمله. يشرح الموقف والمشاعر والحركة قبل كلّ مشهد لكلّ ممثل على حدة، ثم يؤدّي الممثل الشخصية وهو يقف أمامه. لا يحبّ فرهادي أنْ يقوم بالدور بدلاً من الممثلين، وإلا "لكانوا جميعهم واحداً". يرشدهم: "أعطوا أحاسيسكم أنتم ولا تفعلوا كما أفعل". يحرّضهم ويتحدّى مقدرتهم كما يفعل مع رضية: "لا تدعي الزوج يربح النقاش". يركز أصغر فرهادي على التفاصيل: رضية مؤمنة تحفظ القرآن، لذلك يلحُّ على "الفرق" بين ألفاظ المؤمنين في هذه الطبقة الشعبية، وألفاظ الطبقة المتوسطة (استخدام القَسَم بطريقة معينة). يشرح فرهادي أسلوبه في العمل مع الأطفال، ودورهم في "رفع الشحنة العاطفية" في لقطة ما، واضطراره أحياناً إلى "التقطيب"، أو إعادة التصوير معهم في اليوم التالي، وهذا لا يميل إليه.
يستعين وحيد صداقت في وثائقيّه الثالث هذا بالسيناريست الإيراني إبراهيم غلستان والفرنسي جان ـ كلود كاريير، والمخرج البريطاني مايك لي، ليقولوا آراءهم في سينما فرهادي. يُركّزون على أهمية الشخصيات، والعلاقات بينها في أفلامه. إنّها تمثّل أناساً حقيقيين. يقول كاريير إنّ لفرهادي إمكانية نادرة بأخذه مجموعة صغيرة من الناس تتّسع قصته لها، وهذا كي "تُصبح قصّتنا جميعاً، نتعرّف على أنفسنا من خلالها". ورأى أنّ "انفصال" ينتهي بشكلٍ جيد للغاية، وهو يمثّل إيران اليوم وإيران المستقبل، وهو "مستقبل نسوي"، ففيه تنظر المرأة ( ليلى حاتمي) إلى المستقبل، بينما يتمسّك زوجها (بيمان معادي) بالماضي، كما يقول فرهادي.
"مَشاهد من انفصال" ـ المُشارك في "سوق الفيلم"، في الدورة الـ51 (17 إبريل/ نيسان ـ 2 مايو/ أيار 2020) لمهرجان "رؤى الواقع" (سويسرا) ـ يتابع طريقة فرهادي في صُنع الأفلام، منذ تشكّل الفكرة وكتابة السيناريو إلى الـ"بروفات" الطويلة مع الممثلين قبل التصوير، ثم التصوير والمونتاج. الوثائقيّ ـ الذي لا يغفل لقطات توزيع الجوائز الكبرى لـ"انفصال" ـ مُقسّم بترتيب، ويعتمد سيناريو مخططاً ومراحل يسير عليها، من دون أنْ يعني هذا جموداً أو تقييداً، فالموضوع نفسه مُشوّق. صداقت يمنح فرهادي مساحة من الحرية، من دون أنْ يفوته تفصيل أو يفلت منه خطّ سير أو يترك شيئاً للصدفة، تماماً كما يفعل فرهادي في أفلامه. هناك تقديم أوّل، ثم اقتراب تدريجي من شخصية فرهادي (في العمل فقط) ومراحل إنجاز أفلامه، يُرافقه فيها مُستعيناً بمقاطع عدّة من التحضيرات والـ"بروفات" مع الممثلين، تُظهِر كيف يصل فرهادي في النهاية إلى اللقطة المثلى والأداء الأفضل.
يكتب فرهادي عن ما يُشاهده ويمسّه من أحداث، فتُصبح القصاصات لعبة "بازل"، كما يصفها، تكون "شرارة" يَبني عليها. مثلاً: "البحث أكثر عن معلومات حول ألزهايمر". ثم يبحث عن موقع للتصوير، يُحدّده تماماً في مخيّلته قبل أنْ يرسمه على الورق. يريد أشياء محدّدة لا يحيد عنها، هي في "انفصال" بيت عائلة من الطبقة المتوسطة في طهران، فالقصّة تعتمد على هذا. يرسم خرائط، كبهوٍ في الوسط مليء بالنوافذ الداخلية والخارجية، لتصوير مشاهد تجري فصولها خلف الزجاج. في الأمكنة، يلعب فرهادي على إثارة انفعالات أبطاله وإحاطتهم بما يساعد على تعبير يخدم الدور. في غرفة الأب المُصاب بألزهايمر، وضع للممثل العجوز صورة أمه وأشيائه الخاصة، وكلّ ما يثير ذكرياته، كالراديو والساعة.
ينتقل الوثائقي إلى اختيار الممثلين، في قسم خصّص له مَشاهد كثيرة. بعد السرد والحبكة الدرامية، تلعب إدارة الممثلين دوراً محورياً في أفلام فرهادي، الذي يدير ممثليه ببراعة. يروي فرهادي إصراره على إيجاد من يؤدّي الدور كما رسمه تماماً، واستعداده لإيقاف العمل إنْ لم يحصل على ما يُريد. يتوقّف عند دور شخصية الخادمة رضية، واصفاً إياه بأنّه "أعزّ" دور كتبه، وقائلاً إنّ الشخصية بالنسبة إليه تكون "حقيقية جداً حين تقع في معضلة". يُصرّ على رؤية سارة بيات أمامه وليس في دور ما. أحبّ بحّة صوتها والحزن الذي فيه. أما زوجها حُجّت، فشهاب حسيني الوسيم مفاجئ له في دور الرجل الشعبي العنيف. هو نفسه لم يكن مقتنعاً بملاءمته للدور، لكنّ فرهادي أصرّ إلى درجة بات يتصرّف معها بحسب ردود فعل الشخصية. يظهر هذا في لقطةٍ ينفعل فيها حسيني تماماً ويضرب رأسه بالباب فيجرحه، كما لو أنّه الشخصية بحدّ ذاتها.
لم يكن شهاب حسيني الوحيد في دور مخالف للصورة المعروف عنها في السينما الإيرانية، فهناك ليلى حاتمي أيضاً، مع "صورتها الملائكية وخجلها ولطفها". فرهادي أراد تغيير هذا. يمرّر صداقت مَشاهد "بروفات" تُعبّر عن ما يقوله فرهادي عن الشخصية، وتكشف أسلوب عمله. يشرح الموقف والمشاعر والحركة قبل كلّ مشهد لكلّ ممثل على حدة، ثم يؤدّي الممثل الشخصية وهو يقف أمامه. لا يحبّ فرهادي أنْ يقوم بالدور بدلاً من الممثلين، وإلا "لكانوا جميعهم واحداً". يرشدهم: "أعطوا أحاسيسكم أنتم ولا تفعلوا كما أفعل". يحرّضهم ويتحدّى مقدرتهم كما يفعل مع رضية: "لا تدعي الزوج يربح النقاش". يركز أصغر فرهادي على التفاصيل: رضية مؤمنة تحفظ القرآن، لذلك يلحُّ على "الفرق" بين ألفاظ المؤمنين في هذه الطبقة الشعبية، وألفاظ الطبقة المتوسطة (استخدام القَسَم بطريقة معينة). يشرح فرهادي أسلوبه في العمل مع الأطفال، ودورهم في "رفع الشحنة العاطفية" في لقطة ما، واضطراره أحياناً إلى "التقطيب"، أو إعادة التصوير معهم في اليوم التالي، وهذا لا يميل إليه.
يستعين وحيد صداقت في وثائقيّه الثالث هذا بالسيناريست الإيراني إبراهيم غلستان والفرنسي جان ـ كلود كاريير، والمخرج البريطاني مايك لي، ليقولوا آراءهم في سينما فرهادي. يُركّزون على أهمية الشخصيات، والعلاقات بينها في أفلامه. إنّها تمثّل أناساً حقيقيين. يقول كاريير إنّ لفرهادي إمكانية نادرة بأخذه مجموعة صغيرة من الناس تتّسع قصته لها، وهذا كي "تُصبح قصّتنا جميعاً، نتعرّف على أنفسنا من خلالها". ورأى أنّ "انفصال" ينتهي بشكلٍ جيد للغاية، وهو يمثّل إيران اليوم وإيران المستقبل، وهو "مستقبل نسوي"، ففيه تنظر المرأة ( ليلى حاتمي) إلى المستقبل، بينما يتمسّك زوجها (بيمان معادي) بالماضي، كما يقول فرهادي.