I Lost My Body... طريقة للإفلات من القدر

17 ديسمبر 2019
أخرج الفيلم جيريمي كلابان (IMDb)
+ الخط -
يصعب تخيل ذبابة ذات مكانة في المخيلة الشعبية كتلك التي حامت في مختبر والتر وايت في الحلقة العاشرة من الموسم الثالث وحوّلتها من حلقة تعبئة إلى واحدة من أكثر حلقات المسلسل إثارة للجدل. اليوم، تحضر أمامنا ذبابة ـ في الواقع أكثر من واحدة - بأهمية مشابهة في فيلم الأنيميشن I Lost My Body للمخرج الفرنسي جيريمي كلابان، وتلعب دوراً كبيراً في دفع أحداث الفيلم ونقل الموضوعات التي تناولها. 

يغطي الفيلم الذي يستند إلى رواية "اليد السعيدة" لـ"غِيوم لوران" رحلتين في مستويين مختلفين. تدور الأولى حول يدٍ مقطوعة تستيقظ (أو تتحرك، أو أي كلمة أخرى تناسب هذا الموقف)، في مخبرٍ طبي في باريس، وتفر خارجه بحثاً عن صاحبها. أما الثانية فهي تتعلق بنوفل الذي تُسترجَع حياته منذ كان طفلاً في المغرب وحتى هجرته الاضطرارية إلى فرنسا وعمله ووقوعه في الحب مع غابرييل والأحداث التي تودي إلى بتر يده. وفي الحقيقة فإن اختيار المفردة الملائمة لوصف اليد تبدو غاية في الصعوبة، لأنها مجرد عضوٍ مبتور يتمتع بذاكرة وحواس تساعده على تذكر هذه الأحداث ومكان الجسد الذي ينتمي إليه وتساعده على النجاة في رحلته القاسية عبر المدينة وقطارات أنفاقها وطرقاتها وأسطحها.

من النادر أن تتشارك شخصية البطولة مع أحد أعضائها، إذا ما اعتبرنا اليد المبتورة شخصيةً منفصلة عن "الكل" الذي تتحدر منه. وليس هذا مجرد سؤالٍ صغير، إذ إنه يتعلق بـ"الكل" نفسه؛ بالقطعة التي تركها في المغرب حين اضطر للمغادرة إلى مكانٍ غريبٍ كلياً، يشعر فيه بأنه بات جزءاً مبتوراً. وبذلك، يصبح السؤال عمّا إذا كانت اليد تعيد بشكلٍ أو بآخر الرحلة التي خاضها نوفل، وهل ستكون النهايات ذاتها؟



يُطرَح هذا السؤال منذ بداية الفيلم، حين تُسترجَع طفولة نوفل الطموح، الذي يود أن يصبح عازف بيانو ورائد فضاء. يفشل الطفل الصغير حينها بالتقاط ذبابة، أمام أبيه الذي ينصحه بأن يتوقع مسار الذبابة ويسبقها إليه عوضاً عن محاولة الإمساك بها حين تكف عن الطيران، وكأن المسارات مرسومة سابقاً ويمكن معرفتها.

يعيد نوفل حديثاً مشابهاً لـ"غابرييل" حين يقول لها إن الطريقة الوحيدة للإفلات من القدر هي الارتجال والإبقاء على خطوة واحدة تسبقه دائماً. وتشبه الرحلتان بعضهما بذلك، من حيث علاقة "البطلين" بعالمٍ يبدوان غريبين عنه ويبحثان فيه عمّا يكملهما، ولا يتخطيان صعوبات معينة فيه دون وثبة إيمان مفاجئة.

لا تمضي الرحلتان أيضاً دون النظر إلى الخلف، إذ يتم استرجاع الماضي على مستويين في الفيلم؛ ذاك القريب الذي يمتد حتى بتر اليد، والآخر البعيد الذي يتعلّق بطفولة نوفل. ولا شك أن هذا الاسترجاع لا يمكن فهمه بمعزل عن الحاضر الغريب أولاً، بوصفه المحرّك الرئيسي للنزعة الاسترجاعية عند الأفراد أو الجماعات، والحواس ثانياً باعتبارها المداخل الفعلية لعملية الاسترجاع أو التذكر.

ترتبط غالب الذكريات الحاضرة في I Lost My Body باللمس (وسنترك هذا الجزء لليد، بطلة الفيلم) والسمع. إذ يحضر هوس نوفل بالتسجيل منذ بداية الفيلم، حين يحاول التقاط الأصوات المحيطة به عبر مسجلٍ صغير يستمع نوفل إلى ما عليه لاحقاً، ويؤثر في سير الأحداث بطريقة لا يمكن ذكرها دون إفساد متعة مشاهدة الفيلم، كما أن مواجهته الأولى مع غابرييل التي ستغير حياته تتم عبر جهاز الاتصال (الإنترفون) في المبنى الذي تقطنه حين يوصل البيتزا إليها، مفسحاً المجال لحوارٍ غني بين شخصيتين تتكلمان للمرة الأولى. وتكمل التفاصيل اليومية المعيشة كإبعاد وملاحقة الذباب رسم هذا الخط وإحكام العلاقة بين مراحل هذه الرحلة.

تدور أحداث الفيلم في فرنسا والمغرب وتتشابك العلاقة بين المكانين بوصفهما الوطن والمهجر، والمتذكر والحاضر. تُصوّر هذه الفروقات عبر الشكل، إذ تقدم كل مشاهد المغرب بالأبيض والأسود، كما أن غالبها أكثر سطوعاً. يظهر النقيض في مشاهد باريس، التي لا يقع كلابان في فخ تصويرها بشكل رومانسي كسول، ومفضلاً تصوير جوانب أقل ظهوراً منها عادةً.

وتطغى بذلك الألوان القاتمة الأكثر واقعية، والتي تلعب دوراً جمالياً حين تتقاطع مع الحركة والمفهوم غير الواقعي الذي يُبنى عليه الفيلم ويظهر عبر الأسلوب هذا والجمع بين التحريك ثنائي وثلاثي الأبعاد، الذي يجعل من متابعة يد ترتدي علبة معدنية كدرع أو تحارب قطيعاً من الجرذان بولّاعة وتطير بمظلة أمراً ممتعاً بصرياً بالفعل.
من المغري للمشاهد أن يفكر بالنهاية حين يتابع فيلماً يدور حول رحلتين شديدتي الأهمية. إلا أن الفيلم يقول العكس كلياً ومنذ اللحظة الأولى. وبينما يقدم قصة حب قد تبدو مكررة بعض الشيء، إلا أنه لا يتوغل بمعالجتها بالطريقة ذاتها ويترك نهايتها ونهاية رحلة اليد أبعد عن الحسم والنهايات السعيدة، بعد كل الوثبات التي تُخاض. 
لا يقدم I Lost My Body بذلك قصة مثالية أو سعيدة ويبرع في قطع لحظات يتوقع المشاهد فيها مسارات مغايرة، كما يضيف بعض القسوة إلى رحلة لا يمكن أن تتم بسلاسة، كمشهد لي اليد غير المقصود لعنق حمامة تدافع عن عشها، إذ إن رحلة بحث يدٍ عن جسدها في مدينة بحجم باريس ستكون ملتويةً بعد كل شيء.
المساهمون