التكية الصّوفية

24 مايو 2015
تكية صوفيّة في كوسوفو (أرميد نيماني/فرانس برس)
+ الخط -

تعدّ "التكية" الصوفية، والتي نشأت في العصر العثماني، امتداداً لفكرة "الخنقاواه" التي بدأت مع العصر الأيوبي وازدهرت في العصر المملوكي، وإن كان ثمة اختلاف بينهما، في العمارة والدور الذي كانا يؤديانه في المجتمع.
كانت التكايا تُشيّد في أول الأمر بالجهود التطوعية ومساعدة بعض الممولين الأغنياء، وذلك قبل أن تتبنى الدولة العناية بها وإنشائها، وكانت في أول الأمر مبانيَ متواضعة ليست لها عمارة خاصة يشار إليها. ويطلق على التكايا الضخمة اسم "أستانة".
تطور العمارة
لم يكن للتكايا في أول الأمر تصميم معماري مميز، إذ كان تمثل في معظم الأحيان منزلِ الشيخ رئيس الطريقة، لكن مع مرور الزمن صار لها تصميمها الذي يتناسب مع وظيفتها. وتختلف أحجام التكايا وأشكالها تبعاً لأهمية الشيخ وعدد أتباعه وحاجات الطريقة التي يرأسها، لكن التصميم بشكل عام كان يلبي احتياجات الحياة التركية التقليدية من حيث الفصل بين الجنسين، وتقسيم العمل اليومي ورعاية الأطفال والتجمعات العائلية والخاصة.
تتكون "التكية" من قاعة داخلية واسعة، عبارة عن صحن مكشوف يأخذ الشكل المربع، تحيط به من الجوانب الأربعة أربع ظلّات، كل ظلة مكونة من رواق واحد. وبالتكية قاعة تسمى "السمعخانة"؛ وتستخدم للذكر، والصلاة والرقص الصوفي الدائري (صار يطلق عليه "مولوية"؛ نسبة لأشهر الطرق الصوفية). إضافة إلى مجموعة غرف للمريدين ينام فيها "الدراويش"، وهناك أيضاً غرفة لاستقبال العامة، وقاعة طعام جماعية ومطبخ كبير، كما يوجد بكل تكية قسم الحريم، وهو مخصص لعائلات الدراويش. ولم يكن بالمبنى (في أول الأمر) مئذنة ولا منبر، لكننا نرى بجهة القبلة حجرة صغيرة بها محراب لإقامة الصلوات باتجاهه.
وتقام بالتكية حلقات للوعظ والإرشاد للمتصوفين، بصورة غير منتظمة وغير إجبارية، على عكس النظام الذي كان متبعاً في الخانقاه. فالتكية ليست مدرسة وليست جامعاً، فهي مجرد استراحة صوفية، يقيم فيها من شاء دون أية أعباء مادية أو علمية!
أشهر التكايا
انتشرت التكايا بامتداد الخلافة العثمانية، ومن أمثلة التكايا الضخمة في إسطنبول "تكية النقشبندية الأوزبكية" وتكية "حسيريزاد" وتكية "عيني بابا". أمّا "التربة خانة"، وتعني قاعة المدفن فهي أشهر التكايا المولوية. وتوجد في مدينة قونيا، وكانت في الأصل بيتاً أهداه السلطان السلجوقي إلى "سلطان العلماء" والد جلال الدين الرومي، وفيه دُفن الرومي ومن قبله أبوه، ولاحقاً تم إنشاء قبة خضراء على أربعة أعمدة من قبل مهندس معماري تركي مشهور مقابل 130 ألف درهم سلجوقي.
وخلال القرن الثالث عشر، تحول المبنى إلى صرح ضخم يضمّ مسجداً وقاعة للرقص الروحي وجناحاً لسكن دراويش المولوية ومدرسة ومضيافاً لرواد الطريقة. ويجذب المزار حجاجا من جميع بلاد العالم لما للرّومي من أتباع ومريدين من مختلف الديانات والملل. وفي سنة 1927م، حولته الحكومة الجمهورية إلى متحف بعد أن حظرت المولوية في البلاد. أما الآن فيجذب المتحف أكثر من مليوني سائح في العام.
التكايا العربية
ما وصلت إليه التكية في العالم العربي من تطوير كان يسمى قديما في تركيا "كليات"، حيث تلحق بالتكية مجموعة من المنشآت الاجتماعية الأخرى مثل المسجد والمدرسة، وربما سوق للأعمال اليدوية ومتحف للتراث مثلما صارَ الحال في "التكية السليمانية" بدمشق. وهي التي أمر السلطان سليمان القانوني ببنائها سنة 1553م، ويمكن تمييزها بالمئذنتين النحيفتين على الطراز العثماني.
أما "التكية السليمانية" بالقاهرة، فإنها تُنسب للأمير العثماني سليمان باشا الذي بناها سنة 1543هـ في منطقة السروجية. وكانت تخص طائفة الرفاعية الصوفية.
أشهر التكايا في القاهرة هي "تكية الدراويش" ويطلق عليها أيضاً "التكية المولوية" وتقع في حي الخليفة، وهي ذات تاريخ عريق إذ بنيت في القرن الرابع عشر الهجري، وقام بتشييدها الأمير شمس الدين سنقر السعري، نقيب المماليك السلطانية. أي أنها تسبق السيطرة العثمانية على مصر، ويذكر أن السلطان العثماني "سليم الأول" اختبأ فيها مرتديا زى المولوية، قبيل استيلائه على حكم مصر، وإطاحته بآخر سلاطين المماليك "قنصوه الغوري" سنة 1517م.
تقع تكية الدراويش على مساحة تزيد على 7500 متر مربع، وتضم مسجداً ومدرسة وقاعة للعبادة والذكر، وأهم ما يميزها مسرح الدراويش "السمع خانة" التي تعد تحفة فريدة بطابعها المعماري المتميز وزخارفها الأصلية. وهي قاعة نصف دائرية، مصممة بصورة تناسب الجو الموسيقى والرقص الدائري الذي يمارس فيها. وهذه القاعة شهدت أول مهرجان للموسيقى العربية سنة 1932م، وشارك فيه محمد عبد الوهاب، وأم كلثوم، كما اشتركت في المهرجان فرقة "المولوية" التركية بأزيائها ورقصاتها الشهيرة.
في الحجاز
انتقلت فكرة التكية من مصر إلى الحجاز، لكن بصورة مختلفة ومجردة من البعد الصوفي الاحتفالي الذي كان يصاحبها في جميع الأماكن ذات النفوذ العثماني، إذ إن معنى التكية كاد يقتصر في الحالة الحجازية وغيرها على مكان يقدم صوراً متعددة من المساعدات لبعض الدول الفقيرة في العالم، وكانت تسمّى لذلك "المبرة المصرية". ومن أشهر تلك الأماكن التي أنشئت فيها التكية المصرية خارج القطر المصري: المدينة المنورة ومكة المكرمة.
أمر محمد علي بإنشاء التكية المصرية سنة 1823م، وخصصها لخدمة فقراء الحرم المكي من جميع الجنسيات والشعوب المختلفة الذين أعوزتهم الحاجة، فكانت التكية تقدم لهم الطعام والمأوى والعلاج. وفي نفس الأثناء قام إبراهيم باشا بن محمد علي بإنشاء التكية المصرية في المدينة المنورة. وقد حظيت تكية المدينة بعناية تفوق العناية بتكية مكة، لكن ظلت التكيتان تقدمان خدماتهما الإنسانية لمريديها. كما ظلت وزارة الأوقاف المصرية تتكفل بنفقاتهما حتى قامت الحكومة السعودية بهدمهما سنة 1983م في سرية دون أسباب، ودون أي تحفظ من الحكومة المصرية على هذا التصرف "غير الدبلوماسي"، في وقف تاريخي يقدم خدماته للحجاج والزائرين المصريين وغيرهم.
المساهمون