محمد الكحلاوي: إرثٌ وقع طيّ النسيان

08 أكتوبر 2018
الكحلاوي في بورتريه لـ أنس عواد (العربي الجديد)
+ الخط -
من الممكن ألا يعرفُ أحدٌ محمد الكحلاوي. لكن، بكل تأكيد، يعرف الجميع أغنية "عليك سلام الله"، أو على الأقل سمعها المرء مرة، حتى ولو من دون قصد، أو شاهد تسجيلها الشهير على القناة الأولى والثانية في التلفزيون. إنها الأغنية الأشهر والأهم للكحلاوي. تمرُّ علينا هذه الأيام ذكرى ميلاده ورحيله، عرفناه منشداً ومداحاً. في ذكراه، سنحاول أن نستكشف رحلته، وأن نعرف أعماله بعيداً عن الإنشاد الديني. هل حقّاً رفض الغناء لعبد الناصر، في فترة كان الجميع يغني له؟ وماذا قدَّم إلى جانب الغناء؟ كانت فترة الطفولة مؤثرة في حياته، إذْ ربّاه خاله المطرب، محمد مجاهد الكحلاوي، بعد وفاة والدته أثناء ولادته، وتبعتها وفاة والده بعد فترة قصيرة. وتعلَّم من خاله الغناء، وحمل اسم الكحلاوي منه. اسمه الحقيقي هو، محمد مرسي عبد اللطيف، مواليد منيا القمح عام 1912. كانت فترة الطفولة تدور بين صراعه بين هواياته، وهي الغناء وكرة القدم، والتعليم. لكن هواياته كانت أكبر من أن تبقى هوايات، إذْ كانت تجذبه إليها رغماً عنه. 

رغم عمله في السكة الحديد، لم يستطع الاستمرار في مقاومة الغناء، وبدأ في غناء المواويل الشعبية. وجاءت الصدفة وهو يشاهد مسرحية لبديع خيري، والذي طلب إذا ما كان هناك طفل يستطيع الغناء ليشارك في عمل مسرحي. فتقدم الكحلاوي وغنى أحد المواويل، وبالفعل أعجب به بديع، وبدأ في دخول عالم الغناء والتمثيل، وانضم إلى فرقة "عكاشة" المسرحية، وكان يواصل شغفه بكرة القدم واللعب في نادي السكة الحديد، ويظهر تردده بين كرة القدم والغناء في فيلمه "كابتن مصر"، أول فيلم عن كرة القدم في السينما المصرية. انطلق الكحلاوي بصوت لا يشبه أحدا. إذْ أظهر أنَّه يتملك من القدرة والموهبة ما يكفي لأداء الأغاني الشعبية والفلكلورية، بجانب قدرته على التطريب. سافر فترة للشام، وجلس هناك لفترة، تعلم فيها الغناء البدوي الذي قدم فيه أغاني كثيرة وأفلاما سينمائية، من تأليفه وإنتاجه، بعد أن فتح ثاني شركة إنتاج سينمائي في مصر، وهي شركة إنتاج "أفلام القبيلة". برع الكحلاوي في أداء وتلحين الغناء البدوي.

يمتلكُ الكحلاوي أغاني عديدة جملية في اللحن والأداء، رغم نجاحها في فتراتها. لكن العمل الجيد يتطلب الحفاظ عليه من الزمن، ومن أن يقع في طي النسيان، خاصة مع اتجاهه للغناء الديني، وتكريس الدعاية واللقاءات والأغاني في الطريق الديني. هذا الطريق الذي اختاره، أضاع على النقاد الاحتفاء بهذا الإنجاز الفني الضخم له. بالطبع، لا نعفي نفسنا من تهمة الإهمال في حق ذلك التاريخ والمنجز الفني. لم يكن الكحلاوي مطرباً فقط، أو موسيقياً يغني ويلحن، ولكنه كان ممثلاً وقدم أفلاماً مهمة تاريخياً في تاريخ السينما المصرية والعربيَّة، بعيداً عن الاقتباس من الأفلام والمسرحيات والروايات الأجنبية، بجانب تأليفه قصص وسيناريو عدة أفلام، وإنشائه شركة إنتاج سينمائي.



من أجمل ما برع فيه الكحلاوي هو غناء المواويل، وقدم العديد منها بمختلف الأشكال والأنواع. كان أشهرها موال "الصبر"، والذي غناه فيما بعد محمد العزبي، واشتهر باسمه. وهنا دليل واضح على ضياع تاريخ الكحلاوي الفني ما قبل الإنشاد، رغم نجاح الموال بشكل كبير في وقته. وكان صاحب مكانة قيمة داخل الوسط الفني، لدرجة أنه انتخب نقيباً للموسيقيين عام 1945. لكنه تنازل لصالح محمد عبد الوهاب، رغم أنها كانت مكانة مهمة، ويمكن من خلالها تحقيق أهداف للموسيقيين بشكل عام، وحماية نفسه وأغانيه من الاندثار والانتشار بشكل أكبر. تلك منافع يحاول الوصول لها كل من يحاول تخليد فنه بشكل قاطع، كما فعل عبد الوهاب وأم كلثوم.

من الأشياء المهمة المثارة حول حياة الكحلاوي، هو رفضه الغناء لعبد الناصر. وكما هو مذكور في أغلب المقالات والمواضيع التي تناولت حياة الكحلاوي هو رده بجملة "لن أمدح أحدا بعد النبي"، وهو صاحب الأغنية الأشهر للمديح "لجل النبي"، والتي غناها بشكل جميل، وتعتبر من العلامات المؤثرة في تاريخ الأغنية الدينية البسيطة الشعبية، بعيداً عن أغاني أم كلثوم الدينية التي يغلب عليها طابع النخبوية، إلا أغاني قليلة والتي كانت بكلمات بيرم التنوسي مثل "القلب يعشق كل جميل". كان هذه القصة تضيف هالة من القدسية حول الكحلاوي، قصة درامية من القصص التي يحبها الجمهور، والتي يقصها النقاد عن تاريخ الفن لتضيف إثارة حلوة على الشخصية التي تتمتع بكل أنواع الإثارة. البطولة في الوقوف أمام عبد الناصر، وأيضاً حبه للنبي وتدينه في الجزء الثاني من حياة الكحلاوي. لكن عند البحث في أرشيف الكحلاوي، نجد موالاً يمدح فيه عبد الناصر، بل ويتبعه بأغنية لجل النبي، والتي هي جزء من القصة والأسطورة، يغني الكحلاوي "انصر ريسنا لجل النبي".

في النهاية رحل الكحلاوي عام 1982، بعد أن أكد على منتجه الديني، وحاول أن يجعل الناس تنسى ما قدمه من أعمال غنائية عظيمة في المرحلة الأولى من مشواره الفني، حاولنا أن نقف على أهم هذه المحطات، ونؤكد أن الكحلاوي قدم أغاني كثيرة في الأفلام السينمائية التي شارك فيها، تستحق العودة لها والاستماع لها وإعادة إحيائها مرة أخرى. لقد كان من أكثر المطربين الذين عبروا عن الأغنية المصرية والعربية الشعبية والتراثية. وكان يمتلك صوتا جيدا جداً خصوصاً في المرحلة الأولى.
دلالات
المساهمون