"بيترلو" لمايك لي: مرآة تاريخٍ وقضايا

31 أكتوبر 2018
"بيترلو" لمايك لي: عار التاريخ البريطاني (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
في "بيترلو" ـ المعروض في المسابقة الرسمية للدورة الـ75 (29 أغسطس/ آب ـ 8 سبتمبر/ أيلول 2018) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي" ـ تظهر بعض ملامح سينما المخرج البريطاني مايك لي (1943)، وأبرزها تركيزه على المُهمَّشين في طبقات المُجتمع، وتناوله الصراع الطبقي فيه، إن تكن المواضيع مستلّة من بريطانيا المعاصرة، أو مأخوذة من الماضي، أو متصدّية لوقائع تاريخية. لذا، يُعتبر "بيترلو" تلخيصًا لسينماه، فالصراع ـ السياسي والطبقي والثقافي ـ موجودٌ فيه، وحضور المهمَّشين طاغٍ في متنه. 

بعد توقّفه عن الإخراج 4 أعوام متتالية، يستعيد مايك لي ـ في "بيترلو" ـ حادثة تاريخية معروفة باسم "مذبحة بيترلو" (15 قتيلاً ومئات الجرحى)، التي شهدتها مانشستر عام 1819، والتي لا تزال "سُبّة" في جبين التاج البريطاني. أحداث القصّة التاريخية تُوفِّر مادة دسمة، تسمح له بطرح معظم القضايا التي يرصدها في أفلامه عادة؛ وتفاصيل كثيرة عن الثورة وفكرتها، وعن سحقها من النظام، وغير ذلك من المفردات التي لها إسقاطاتها على الواقع الراهن. بهذا المعنى، يستحضر مايك لي التاريخ لإسقاطه على الراهن.

"بيترلو" ليس من الأفلام التي تحتفي بالحدث بحدّ ذاته، أو التي تُمعِن في رسم تفاصيل الحادثة ومجرياتها يوم وقوعها، وما تحمله المجريات من فظائع وأهوال. هذا دفع كثيرين إلى أن يكونوا ضد مايك لي وفيلمه، بينما للمخرج نظرة وهدف آخران. ففي 154 دقيقة، ظلّ مايك لي يُرسي دعائم الصرح الذي يبنيه على مهل. بصبر وأناة، يضع تفاصيله بعضها إلى جانب بعض، كي تُفضي في النهاية إلى يوم المذبحة، الذي يعرف كثيرون تفاصيل ما جرى فيه. لذا، لم يكن تركيزه أساسًا على إخراج صورة بانورامية ملحمية لما تعرّض له نحو 60 ألف شخص احتشدوا في ميدان القديس بطرس، للتظاهر السلمي وللاستماع إلى هنري هانت (روري كينيار)، الخطيب المُفوَّه. باقتضابٍ غير مُخلّ بالحدث، وبجمال وإثارة مشهديين كبيرين، وعلى نحو مقبول للغاية، أبرز مشهد المذبحة وأهمّ ما وقع أثناءها، ونجح في نقل الصورة، أو جزءٍ منها على الأقلّ.



هكذا تمكّن مايك لي من توريط مشاهدي فيلمه مع شخصياته، وفي صراعات الشخصيات أيضًا؛ وبالتالي تهيئة المشاهدين تدريجيًا للمأساة، وتجهيزهم للحظة وقوع المذبحة. لم تُلقَ الملامة على المطالبين بحقوقهم. كما برز التساؤل الضروري عمَّا دفع السلطة إلى ارتكاب تلك الحماقة غير المبرّرة أبدًا، إذْ لم يكن هناك ما يستدعي إطلاقًا القيام بما قامت به السلطة آنذاك. وهذا منسحبٌ بدوره على كلّ سلطة ترتعب من أيّ حراك شعبي، حتى وإن كان سلميًا وغير مسلّح. لكن تدارك الأمر يأتي دائمًا بعد فوات الأوان، ووقوع ما لا يُمكن غفرانه أو نسيانه.
لا يعني هذا أن مايك لي سقط مع "بيترلو" في هوّة السياسة. فالسيناريو (مايك لي نفسه) مُحكم البناء ومتين الصُنعة. ورغم أن حوارات عديدة طويلةٌ أحيانًا، وبعض الخطب امتدّ دقائق بدت معها مُملّة قليلًا أحيانًا أخرى؛ إلاّ أنّ هذا كلّه كان لصالح البناء الراسخ للفيلم، ولتبيان كيف أن طرفي الصراع يقفان في موقعين يتناقض أحدهما مع الآخر، وللإشارة إلى أن احتدامًا يلوح في الأفق، وصدامًا سيكون وشيكًا، رغم أن الطرف الأضعف (قليل الحيلة) لم يكن أمامه سوى الاعتراض السلمي. لذا، يظهر "بيترلو" مزيجًا رائعًا بين السياسة والاقتصاد والاجتماع وصنع القرار في الدوائر العليا والحكومية، بالإضافة إلى حرية الصحافة وقمعها، والانقسامات والانشقاقات بين الأفراد في الجبهتين حول كيفية إدارة الصراع.

هذا لا يُشير إلى أن مايك لي لم يُعطِ أهمية كافية للعناصر الفنية للفيلم. فالمفردات السينمائية بالغة التكامل والتناغم؛ وحركة الكاميرا شديدة الحيوية، وغير ثابتة في معظم المشاهد؛ وديكورات مانشستر ـ بطرقاتها وساحاتها ومنازلها وحاناتها ـ بالغة الجمال؛ والملابس وتناسقها اللوني ـ خصوصًا عند تفاعلها مع الإضاءة (وهي محتاجة إلى دراسة فنية خاصّة بها) ـ تُدخِل المشاهدين في أجواء تلك الفترة التاريخية من دون عناء.

لذا، فإن "بيترلو" يُعتبر من أبرز أفلام مايك لي، ولعلّه يتفوّق على فيلمه السابق "السيد تيرنر" (2014)، مع أن البريطاني ديك بوب (1947)، المُصوِّر المُفضَّل لمايك لي في أفلامه منذ فترة طويلة، هو مدير تصوير الفيلمين الأخيرين.



في "بيترلو"، لا يقتصر رصد المأساة والصراع الدرامي على أسرة محدّدة، أو على أحد أفرادها فقط. فالمسألة تشتمل طبقات عريضة من المُجتمع البريطاني بأطيافها المختلفة، المُمثّلة بسكّان مانشستر والمناطق المحيطة بها، الذين يُعانون وطأة الضرائب الباهظة من ناحية أولى، وارتفاع مصاريف العيش في مقابل أجور مُنخفضة وندرة عمل من ناحية ثانية. وهذا باسم الحرب وبسببها، تلك التي خاضتها بريطانيا مع الحلفاء ضد نابليون، حتى هزيمته في "وترلوو". ولم يسلَم من ذلك حتى البريطانيون المشاركون في تلك الحرب، الذين خاضوا المعارك، وتعرّضوا لأنواع شتّى من العذاب النفسي والجسدي.

لذا، ليست صدفة أن يفتتح مايك لي فيلمه هذا بمشهدٍ رائع عن آخر أيام معركة "وترلوو". كما أنه يُركِّز في مشهد آخر على عودة الجندي جوزف (ديفيد مورست)، وقد استبدّ به الإعياء. لاحقًا، يظهر عائدًا من المعركة سيرًا على قدميه، وبالكاد تعرَّفت عليه أسرته التي لم تره منذ أعوام، والأسرة ستبذل كلّ ما في وسعها لإخراجه من إنهاكه الجسدي وصدمته النفسية بعد المعركة، في لقطات تعكس مدى ما تعانيه الأسرة من قسوة عيش. جوزف نفسه لا يستطيع، بعد كلّ ما قدّمه لوطنه، أنّ يعثر على فرصة عمل لمُساعدة أسرته.

لا يقتصر الأمر على جوزف وأسرته، فهذا مرتبطٌ أيضًا بعائلات كثيرة في المدينة، ما أدّى إلى تضخّم الأمور، خصوصًا مع دخول السياسة، وتفاعل أفراد الطبقة العاملة مع الحالة، واشتراك أبناء الطبقة الوسطى أيضًا؛ كما مع دخول الصحافة لتأدية دورها؛ وأخيرًا، وقوف النساء إلى جانب الرجال لدعمهم؛ وصولاً إلى المطالبة بضرورة الحصول على تمثيل برلماني متساو بين الجميع في شمال إنكلترا، يضمن لكل فرد صوته الخاص، وشعاره: "فرد واحد، صوت واحد". حتى ذلك الوقت، لم يكن لمانشستر وما حولها أي تمثيل برلماني، ما أدّى إلى تفاقم الأوضاع ووصولها إلى ما انتهت إليه.
المساهمون