فتحت أم كلثوم خزانة أوارقها، وأخرجت رسالةً من الشاعر أحمد شوقي ليس فيها مقدّمات أو سلام، بدأت هكذا: "سلوا كؤوس الطلى هل لامست فاها"، وأعطتها لصديقها رياض السنباطي، الذي سألها "إيه الحكاية؟".
يذكر السنباطي، الذي تحلّ ذكرى ميلاده اليوم، أن أم كلثوم كانت في حفل يحضره كبار رجال مصر في السياسة والثقافة، "بهوات وباشوات وبرنسات"، فقام أحمد شوقي بتقديم كأس من الخمر لأم كلثوم، وهي لا تشرب فلمست الكأس بشفتها دون أن ترتشف منه ثم وضعته، ولاحظ شوقي ذلك، فكتب هذه الكلمات وأرسلها إلى "الست".
يروي السنباطي (1906 - 1981) القصة في مقابلة أجراها معه المذيع الكويتي جاسم شهاب على قناة الكويت عام 1981، وكانت قبيل رحيله بمدة قصيرة.
السنباطي، الذي سمعه والده صدفة وهو ابن عشرة أعوام، يغنّي قصيدة صعبة، وكان هو أيضاً يغنّي في حفلات وموالد، طلب من صغيره أن يبدأ في مرافقته، وبعد عدة ظهورات له ذاع صيت السنباطي الصغير، وأصبح يُلقّب بـ "بلبل المنصورة"، بل وأصبح المتعاقدون يشترطون على والده أن يصطحبه معه.
حين بلغ رياض السابعة عشرة ترك المنصورة واتجه إلى القاهرة، حيث التحق بمعهد الموسيقى العربية وبدأ في دراسة الموشحات، وسرعان ما اكتشف أساتذته أن ما يحفظه التلميذ من والده يفوق معرفتهم بالموشحات. وحين سمعوه يعزف العود بمهارة طلبوا منه تدريسه، وتحول الطالب إلى مدرس في غضون أشهر. وبدأ تجارب التلحين في تلك الفترة، فجرّب أولاً في قصيدة "يا مشرق البسمات" للشاعر محمود علي طه صاحب "الجندول".
بدأ السنباطي بالعمل مع شركة "أوديون" للأسطوانات، وانتظم معها في تلحين قصائد مدح الرسول، فبدأ مشروع أغنيات "الذهاب" إلى الحج ثم "العودة"، وبالفعل راجت هذه المدائح. وعن تلك الفترة يقول: "التلحين أنساني الغناء، ووجدت أنني ملحن أفضل بكثير مني مغنياً".
لم يفكر الموسيقي المبتدئ في زيارة أم كلثوم، وهي كذلك كانت تعلم أنه في القاهرة ولم تفكر في دعوته، إلى أن افتتحت الإذاعة الحكومية الرسمية، وأصبح السنباطي يذيع كل أسبوع حفلة مدتها ربع ساعة، سمعته أم كلثوم واتصلت به ودعته إلى زيارتها، وكان ذلك عام 1935.
التقى الثنائي لقاء العمل الأول في شقة أم كلثوم في عمارة بهلر في الزمالك، كما يروي السنباطي، وطلبت منه أن يلحن لها قصيدتين لأحمد رامي؛ الأولى "يا طول عذابي واشتياقي" والثانية طقطوقة "لما إنت ناوية تهجريني أمّال دموعك كانت ليه"، وكان هذا أول نجاح بين الاثنين، تلاه "سلوا كؤوس الطلى"، ثم "سلوا قلبي" عام 1946.
في هذه القصيدة، كتب شوقي: "وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا"، وكان حفل "كوكب الشرق" يخضع للرقابة البريطانية، التي اعتبرت في هذا البيت بالتحديد تحريضاً على الثورة، فأرسلت إنذاراً باسم السنباطي إلى المحطة الإذاعية مع قرار بمنع بث الأغنية.
يصف الملحن الراحل دخول أم كلثوم غاضبة على رئيس الإذاعة المصرية، سعيد باشا لطفي، وشدّة انفعالها وهي تضرب طاولته بيدها وتطالب برفع المنع عن القصيدة التي لم ترد منها إلا مدح النبي، لتنجح فعلاً في مرادها.
الخلافات بين السنباطي والست كانت تصل إلى ما يشبه الانفصال أحياناً، في واحدة منها قاطعها لعامين، وما كانت تلك القطيعة لتنتهي لولا تدخل الأصدقاء بينهما. يقول السنباطي: "كانت خلافاتنا على أتفه الأسباب، وصلنا معاً إلى تقديم قمّة الشعر العربي الراقي، ومرّةً عرضت عليَّ قصيدة رفضتُها فغضبَت"، إذ اعتبر السنباطي الأغنية نزولاً عن المستوى الرفيع الذي وصلا إليه.
لا يمكن الحديث عن السنباطي دون أن يقتضي ذلك ذكر أم كلثوم، حالة يختصرها الفنان بعبارة "قصة حياتي هيَّ". وإن كانت هذه حال أم كلثوم مع كثيرين، فلا يمكن أيضاً الحديث عن أحمد رامي من دونها أو القصبجي أو زكريا أحمد، لكن يمكن الوقوف عند "الست" وحدها كحالة فريدة في عصرها بل والعصور التي أتتب بعدها، كما يصفها السنباطي: "لم تكن صوتاً فقط، كانت مجموعة من الميزات العجيبة (...) وأنا لم أحمل عودي إلا لها، كانت متقلّبة وغريبة، لذلك كنت أناديها أحياناً دنيا"، ولهذه الدنيا لحّن أكثر من 300 لحن.
لم يحضر السنباطي الحفلات في المسرح، مفضلاً الاستماع إلى موسيقاه على الراديو فقط، يفضل أن يظل بعيداً عن المجتمع والأوساط الفنية والحفلات، عُرفت عنه عزلته وانسحابه من البريق، مؤثّراً حاسته الأقرب إليه كملحن؛ السماع، لذلك كان يجلس في البيت وقت حفلة أم كلثوم، ويصغي إلى تجاوب الناس مع لحنه عبر الراديو. ولا يذكر أنه ارتاد إلا حفلاً واحداً هو مناسبة 23 يوليو التي حضرها جمال عبد الناصر وغنّت فيها أم كلثوم "طوف وشوف" من ألحانه، ومنحه "الريّس" وسام الفنون والعلوم من الدرجة الأولى.
بتكليف من الإذاعة، لحّن السنباطي لمطربات ناشئات آنذاك، منهن فايزة أحمد ونجاة الصغيرة ووردة وعزيزة جلال وسميرة سعيد. وعن الغناء بعد أم كلثوم يقول: "يؤسفني أن الفنانات اليوم يتكلّمن ولا يغنّين".
يقول ملحن "الأطلال" عن قصيدة إبراهيم ناجي وتلحينها: "كان فيها شيئ غريب، شعرتُ بذلك فلحّنتُها بشكل مختلف. إنها قصيدة كُتب لها الخلود معنى وصوتاً ولحناً"، ولناجي أيضاً لحّن السنباطي قصيدة "انتظار"، لكن "الست" رحلت قبل أن تغنّيها، فقدمتها سعاد محمد التي يصفها السنباطي بـ "صوت قادر بلا حظ"، ويرى أن لا أحد بعد أم كلثوم أجاد غناء القصائد مثل وردة الجزائرية وقد غنت من ألحانه "لا تقل لي ضاع حبي".
بالنسبة إلى رياض السنباطي، فإن رسالة الفنان تتمثّل في أن "ينتشل الجمهور وأن يرفعه إلى الأعلى ولا ينزل له أبداً". لم يلحّن غالباً إلّا القصائد الفصحى، وحين لحّن العامية وصفها بأنها العامية الفصيحة وضرب مثلاً بـ"شمس الأصيل"، و"القلب يعشق كل جميل".