لا يُسجّل فقط للسيدة أم كلثوم (1898 – 1975) التي تمرّ ذكرى ميلادها اليوم، أنها أول مطربة واصلت مشروعها الفني بينما توقفّت جميع المطربات اللواتي ظهرن بعد منتصف القرن التاسع عشر لأسباب مختلفة، بل أنها اختارت كيف تبدأ مشوار الغناء وأين تنتهي ولم تترك المسألة لتصاريف القدر أو الملحنين والشعراء الذين كانت لهم كلمتهم الفصل آنذاك.
تلقّى معظم فناني تلك الحقبة أصول الغناء على يد آبائهم من المنشدين والمقرئين مثل الشيخ زكريا أحمد ومحمد القصبجي ورياض السنباطي ومحمد عبد الوهاب، وكذلك تعلّمت كوكب الشرق إلقاء المدائح والأناشيد على يد والدها الشيخ إبراهيم البلتاجي، ولا يمكن فصل الغناء الديني عن "الدنيوي"، بحسب الباحثين والمؤرخين الموسيقيين.
ورغم صدور عشرات الكتب والدراسات التي توثّق سيرة أم كلثوم وتجربتها، إلا أن الاختلاف لا يزال قائماً على أمور عديدة تتعلّق بتاريخ مولدها بين 1898 و1908، وانتقالها من منشدة تجوب قرى شمال الدلتا إلى القاهرة حيث استقرّت عام 1921 أو بعد ذلك بأعوام، حيث تفترق القراءات حول السنوات التي سبقت تلك السنة، وأسباب نجاحاتها الأولى كحصيلة مصادفات وكثير من الحظ، أو أن عبّرت عن وعي مبكر بما هو آت.
إحدى أبرز الملاحظات أن أم كلثوم سجّلت الأسطوانة الأولى عام 1924 مما اختارته من ألحان شيخها الأول أبو العلا محمد (1884 – 1927) بينما كانت قد أدّت أغان أخرى يبدو أنها لم ترق لها، ثم سجّلت في العام ذاته أسطوانة أخرى من ألحان أحمد صبري النجريدي الذي هجر مهنة طب الأسنان ليتفرّغ للعمل مع المطربة الصاعدة.
بالعودة إلى الأسطوانة الأولى، كان لافتاً أن قصيدة "الصبّ تفضحه عيونه" قد انتقتها الست ليلحّنها أبو العلا الذي كانت جلّ أعماله من عمود الشعر العربي القديم؛ انتقاء ليس سهلاً إذا ما عرفنا أن صاحب القصيدة هو شاعر شاب كان لا يزال على مقاعد الدراسة في باريس واسمه أحمد رامي والذي ستؤدي أكثر من ثلاثين قصيدة له خلال الأعوام اللاحقة.
الانطلاقة الأبرز كانت بعد ذلك بعامين، حين سجلّت عشرات الأغاني التي لاقت رواجاً كبيراً، اختارت منها مقطوعات لعبده الحامولي وأبو العلا محمد والنجريدي، لكن الأهمّ تمثّل بالتحاق محمد القصبجي الذي كان في بداية مشواره، ولحّن لها إحدى وعشرين أغنية بين عامي 1926 و1927، وأصبح الملحّن الأول في فرقتها التي بدأت نشاطها منذ تلك الوقت.
ليس مؤكداً أن أم كلثوم كانت صاحبة القرار بالتعامل مع القصبحي لكن ما يرجّح ذلك أمران؛ أولاهما أنها أجّلت برغبة منها تعاونها مع الشيخ زكريا أحمد الذي عرض عليها الأمر عام 1922 ولم يتحقق قبل سبع سنوات، وثانيها أن القصبجي قدّم ما سمّي بـ "المونولوغ الرومانسي" الذي اعتبر حينها قالباً جديداً ما يحتاج تضمينه في أسطواناتها الأولى إلى توافق بينها وبين الملحن على أقل تقدير.
وبذلك يمكن القول إن الفريق الأول الذي شكّل بداياتها لم يلتئم عفو الخاطر، وأن الاعتماد على قصائد أحمد رامي وألحان محمد القصبجي يعدّ مغامرة في معايير ذلك العصر خلافاً لما يعتقد كثيرون، ساهمت في تطوير أدواتها لاحقاً وامتلاكها رؤية في التجريب.
بعد نجاحات السنوات الأربع، قرّرت أم كلثوم تقديم أغنية "على عيني الهجر ده مني" من تلحينها إثر خلافاتها مع القصبجي لأوّل مرة لكنها لم ترض عنها كثيراً، لتبحث عن بدائل أخرى كانت مع داود حسني وزكريا أحمد وتستمر في البحث والتجريب واختيار الملحنين والشعراء بما يتناسب مع مشروعها الذي صاغت البدايات جوهره ومنتهاه.