وكان المجلس العسكري قد أصدر في إبريل/ نيسان الماضي، قراراً بتجميد عمل كل النقابات والاتحادات المهنية، بسبب اتهامات بسيطرة موالين لنظام البشير عليها. ونصّ القرار على تكليف عدد من اللجان لحصر وضبط العهد والأصول والمعاملات المالية، والقيام بأي أعمال أو واجبات تمليها الظروف تتعلق بالنواحي الاجتماعية والتكافلية والإنسانية لمنسوبي النقابات والاتحادات المختلفة، لحين إجراء انتخابات جديدة يسبقها تعديل قانون ولوائح النقابات.
وقال المجلس العسكري في بيان التراجع، الأربعاء، إنه عكف على مراجعة القرارات التي تمّ اتخاذها خلال المرحلة الاستثنائية التي تمرّ بها البلاد، مشيراً إلى أنّ قرار تجميد التنظيمات النقابية تمّت مراجعته في ضوء القوانين المنظمة للعمل النقابي والاتفاقيات الدولية المتعلقة بهذا الشأن، إلى جانب المعاملات والعقود والالتزامات الجارية حالياً بهذه التنظيمات. وتابع أنه توصّل إلى قرار بـ"ضرورة فكّ تجميد نشاط النقابات والاتحادات المهنية، التزاماً بالمواثيق الدولية، وتثبيتاً للمكاسب التي يحققها تقلّد السودانيين لهذه المنظمات بمواقع إقليمية ودولية في غاية الأهمية".
وشمل القرار المثير للجدل، الاتحاد العام لنقابات عمال السودان، الذي يضمّ عدداً كبيراً من النقابات. كما شملت القائمة اتحادات مهنية مثل اتحاد المحامين، واتحاد الصحافيين، واتحاد الأطباء، واتحاد أصحاب العمل، وجميعها نقابات ظلّت تحت سيطرة حزب "المؤتمر الوطني" الذي حكم البلاد خلال 30 سنة ماضية.
وأثار قرار المجلس العسكري ردود فعل رافضة وغاضبة، إذ استنكر بداية "تجمّع المهنيين السودانيين"، على لسان القيادي في التجمّع أحمد الربيع هذا القرار، قائلاً في حديث مع "العربي الجديد"، إنه "مؤسف وصادم لتجمّع المهنيين، ولكل الشعب السوداني". ورأى الربيع أنّ المبررات التي دفعت المجلس لإصدار القرار "غير مقبولة ومرفوضة تماماً"، وأكّد أنّ "الحكومة المدنية التي يطالب بها تجمع المهنيين، وكل قوى إعلان الحرية والتغيير، ستضع الأمور في نصابها الصحيح، وذلك بتصحيح المسار النقابي في البلاد".
وأضاف الربيع أنّ "المجلس العسكري يحاول بقراراته هذه، التعامل على أساس أنه سلطة أمر واقع، وليس مجلساً عسكرياً يفترض انحيازه للمطالب الثورية"، متعهداً بـ"مقاومة القرار من قبل تجمع المهنيين بوسائل المقاومة ذاتها، التي ظلّ يتعامل بها مع النقابات التي كانت جزءاً من النظام البائد".
كما أصدر "تجمّع المهنيين" بياناً أمس، اعتبر فيه السماح بنشاط النقابات المحسوبة على نظام البشير، "ردَّة من المجلس تخدم أجندة الثورة المضادة، وتعمل لتبديد مكاسب الثورة والعودة بالبلاد إلى مربع الطغيان". وشدد على أنّ "تجمّع المهنيين لن يقبل بأقلّ من أن تكون قوانين العمل النقابي ديمقراطية تستند على التقسيم الفئوي لا نقابة المنشأة، فمصالح العاملين لن تُراعى عبر التلبيس والتخليط بين الفئات المختلفة داخل المؤسسة الواحدة"، مطالباً العاملين بكافة المؤسسات وأماكن العمل، "لاستكمال تكوين لجان التسيير واللجان التمهيدية، واستنهاض القواعد لاستعادة النشاط النقابي الديمقراطي المستقلّ".
بدورها، أصدرت "اللجنة التمهيدية لاسترداد نقابة الصحافيين" بياناً، قالت فيه إنّ "النقابات والاتحادات التي فُكّ تجميدها، بما فيها اتحاد الصحافيين، هي مجرد أدوات حزبية استخدمها النظام البائد لتصفية خصومه السياسيين". وأضافت أنّ المجلس العسكري بخطوته هذه "يريد إعادة عجلات الزمن إلى ما قبل ثورة ديسمبر/ كانون الأوّل المجيدة"، مؤكدةً رفضها للقرار والعمل على مواجهته بكل الأساليب السلمية.
ولم يقتصر تحرّك المجلس العسكري الأخير، الذي يحاول من خلاله كسب قاعدة عمالية، فقط على قرار فكّ تجميد النقابات، إنّما اتبعه بتقديم حوافز لعدد من الجهات لخطب ودّها والحيلولة دون مشاركتها في إضراب عام يخطط له "تجمّع المهنيين السودانيين"، للضغط على المجلس من أجل تسليم السلطة لحكومة مدنية. فقد اجتمع نائب رئيس المجلس العسكري، محمد حمدان دقلو الملقب بـ"حميدتي"، أول من أمس بموظفي الطيران المدني، وأعلن تبرعه لهم براتب 3 أشهر، مع إعادة موظفين تعرضوا للفصل في شهر يناير/ كانون الثاني الماضي. وجاءت هذه الزيارة بعد أيام على صدور بيان منسوب لـ"التجمّع المهني للطيران"، أعلن فيه تأييده لمطالب الثورة السودانية وتشكيل حكومة مدنية، والتزامه في الوقت نفسه، بالإضراب العام. كما هدد بوقف الملاحة الجوية بالتزامن مع الإضراب.
حتى إنّ تصريحات قيادات المجلس، وعلى رأسهم دقلو، بدت وكأنها تسعى لامتصاص الغضب النقابي، إذ حاول نائب رئيس المجلس العسكري، أوّل من أمس، استدرار عطف العمال، من خلال حديثه عن الظلم الذي تعرضوا له أيام النظام السابق، كاشفاً عن تشكيل المجلس لجاناً لمراجعة حقوق الموظفين والعمال في الشركات الحكومية كافة. وأسف دقلو على ضعف المرتبات في الدولة، مستشهداً بمرتبات المعلمين التي تقدر بألف جنيه (25 دولاراً). كما نقلت عنه في الأيام الماضية تصريحات هدد فيها بعدم إعادة من يشارك في الإضراب إلى عمله.
وتمضي جهود المجلس العسكري فيما يبدو بلا جدوى، إذ تتواصل الاستجابات من قبل النقابات والاتحادات لدعوات تجمّع المهنيين بتنفيذ وقفات احتجاج، والتوقيع على دفتر حضور الإضراب السياسي العام. وقد كانت لافتةً، أمس الخميس، استجابة عاملين في مؤسسات حكومية، لدعوات تجمّع المهنيين، إذ خرج عمال الكهرباء في عدد من المكاتب للشوارع، وحملوا شعارات تطالب بالحكومة المدنية، وتؤيد الإضراب السياسي. ومثلهم فعل عاملون بصندوق الإسكان القومي ومؤسسات أخرى.
وتعليقاً على هذه التطورات، قال الصحافي السوداني ماهر أبو الجوخ، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ "المجلس العسكري الانتقالي حينما اتخذ قراراً بتجميد عمل النقابات، أراد إثبات جديته في تفكيك مراكز وواجهات النظام السابق، على أمل أن يحدث انفراجاً في المباحثات المستقبلية مع قوى إعلان الحرية والتغيير يفضي لتأسيس شراكة بين الطرفين".
ورأى أبو الجوخ أنّ التصعيد الأخير بين المجلس العسكري وبعض قوى إعلان الحرية والتغيير، التي لوّحت باللجوء للإضراب العام والعصيان المدني الشامل للضغط على المجلس لتقديم تنازلات، "دفع الأخير للمناورة والاستفادة من خطابات إقليمية ودولية رافضة لتجميد النقابات، فقرّر التراجع عن هذا القرار، في خطوة لها دلالات سياسية أخرى مرتبطة بحالة الشدّ والجذب بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير". وتابع أبو الجوخ أنّ "المجلس يريد استخدام النقابات مؤقتاً في صراع الإضراب والعصيان المدني"، مشيراً إلى أنّه "سيعود حتماً لقرار حلّ النقابات بمجرد توصله لاتفاق مع قوى إعلان الحرية والتغيير وتشكيل الحكومة".
واستبعد أبو الجوخ أن يكون المجلس العسكري راغباً في استخدام أدوات النظام السابق، ورأى أنه "أراد من خلال جميع خطواته خلال الأيام الماضية، احتواء محاولات التصعيد من قبل قوى إعلان الحرية والتغيير، وهو أمر مرتبط بالضغوط المتبادلة". وحول القرارات الخاصة بتحفيز العاملين برواتب إضافية بقرارات من نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي، قال أبو الجوخ إنّ دقلو "يحاول عبر تلك الحوافز تقديم نفسه بشكل مختلف، بما يغيّر الصورة النمطية المعروفة عنه"، مضيفاً أنّ دقلو "يريد كذلك خلق مراكز تأييد وتعاطف مدني، لتكون مظلات حماية من التصعيد الذي يقوده تجمع المهنيين وأطراف أخرى".