تسعى بكين منذ سنوات للتحوّل إلى قوة عالمية مقبولة من مجتمعات غربية وأوروبية، واستثمرت من أجل ذلك الكثير من الأموال، وأسست شركات عملاقة من أجل أنسنة وجه نظامها السياسي الموصوف بالقسوة والشمولية. جاء وباء كورونا كفرصة لبكين للتمدد نحو الغرب، غير أنّ مؤشرات عدة صعّبت مهمتها، لا سيما ما كشفته وسائل إعلامية عن تزايد نشر خطاب عدائي لـ"الأجانب" داخل الصين، إضافة إلى عدم صلاحية أجهزة وأدوات طبية أرسلتها لإنقاذ أرواح الناس في دول أخرى، واتهامات لها بإخفاء العدد الحقيقي لضحايا "كورونا" في البلاد، إلى جانب حديث مواقع صينية معارضة عن آلاف الفواتير المتعلقة بالهاتف والكهرباء والمياه لم تعد تسدد منذ شهرين، وربط ذلك بالقول إن أصحاب هذه الفواتير قد توفوا ولكن من دون الإعلان عن ذلك. ويتأكد من خلال كل هذه الأمور وغيرها أنّ طريق الصين إلى القطبية العالمية ما تزال دونه عقبات كثيرة.
أجهزة طبية غير صالحة
في اليوم الأخير من مارس/ آذار الماضي كانت تايوان تعلن أنها بصدد التبرع لأوروبا بمعدات وأدوات طبية، من بينها 10 ملايين قناع طبي لأكثر الدول تضرراً من جائحة كورونا. لكن، في اليوم الأول من شهر إبريل/ نيسان الحالي، كانت الصين تظهر غضبها أمام موظفين رسميين ممثلين للاتحاد الأوروبي، لترحيب الأخير وقبوله بالمساعدة التايوانية، التي تفوق بثلاثة أضعاف ما قدّمته بكين لدول الاتحاد.
الغضب الصيني يثير علامات تعجّب بين الأوروبيين، ليس لأنه غضب ناجم عن أنّ بكين تصرّ على اعتبار تايوان جزءاً منها، ولا لأنّ رئيسة تايوان، تساي إنغ وين، تجعل من أوروبا أرضية لكي "نلعب دوراً عالمياً في محاصرة ومكافحة الوباء بالتعاون مع الدول الأخرى"، بحسب قولها أخيراً، بل لأنه يكشف أهدافاً أخرى لـ"القوة الناعمة" لبكين، حين تحدثت عن "المساعدات الصينية إلى الأوروبيين"، الذين اكتشف بعضهم أنّ أغلب ما حصلوا عليه، وبعضه مدفوع الثمن وليس مجانياً، لا يصلح للاستخدام في القطاع الطبي.
تؤكّد بعض وسائل الإعلام الأوروبية، ووكالات أنباء مثل "رويترز"، أنّ الوعود التايوانية الأخيرة تفوق بكثير ما قدمته الصين، إلى جانب أنّ المفوضية الأوروبية، بحسب وكالة الأنباء الدنماركية "ريتزاو"، ما تزال تنتظر الحصول على بضائع حجزتها في الصين ولم تصل بعد.
وفي أكثر من دولة أوروبية، وبعد ارتباك الاتحاد الأوروبي إثر انتشار الوباء في إيطاليا بصورة كبيرة، تحوّل الترحيب بالمساعدات الصينية، وشراء وزارات صحة أوروبية منتجات صينية طبية، إلى امتعاض، بعد الكشف عن خلل في مئات آلاف أجهزة فحص فيروس كورونا. وهو ما حصل في إسبانيا التي خططت لفحص ملايين المواطنين، واشترت 640 ألف فاحص، وحجزت 5 ملايين فاحص إضافي، ليتبين أنها غير صالحة للاختبار الدقيق، ولا تصل نسبة الدقة فيها، أو حساسية الأجهزة، إلى 30 في المائة، فيما المطلوب أن تكون 80 في المائة وما فوق، بحسب صحيفة "إل باييس" الأسبوع الماضي، نقلاً عن "مصادر في دائرة الصحة بمدريد". وستعاد الأجهزة غير الصالحة إلى الصين.
وما ينطبق على إسبانيا يسري على عدد من الدول الأوروبية الأخرى، التي فوجئت أجهزتها الطبية بمستوى تردي ما ترسله الصين، بما فيه الأقنعة التي أُعلن عن إتلافها في بعض الدول، لأنها غير صالحة للاستخدام في المستشفيات. الريبة الأوروبية، والمنتشرة على نطاق واسع في الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي، من نوعية ما تقدمه الصين، سواء الأجهزة المصنفة مساعدات، أو التي تم شراؤها، دفعت بالكثيرين لطرح أسئلة عما إذا كانت "الصين قد سيطرت حقاً على الفيروس بمثل هذه المعدات".
نظرية المؤامرة وتلميع الصورة
لم تكن بعد أرقام الإصابات في الولايات المتحدة قد وصلت إلى ما هي عليه حالياً، وبالتزامن مع وصول طائرات صينية إلى إيطاليا، راحت الماكينة الدعائية الصينية، المسيطَر عليها من قبل الحزب الشيوعي الحاكم، تبثّ نظرية المؤامرة. وعلى الرغم من أنّ الغرب، وتحديداً وسائل الإعلام الأوروبية، لم تتعاط بجدية مع نظرية أن "الجيش الأميركي ربما نشر الفيروس في مدينة ووهان"، إلا أنّها دعاية وجدت طريقها بقوة في المجتمع الصيني، بحسب ما يرصده مراسلون غربيون في بكين.
ونشرت الصحافة الاسكندنافية، على سبيل المثال، في منتصف مارس/ آذار الماضي، عناوين واضحة حول ما تصبو إليه بكين مثل: "الصين تنشر نظرية المؤامرة لتغيير صورتها كناشرة للعدوى" بحسب عنوان لصحيفة "إنفارماسيون" في كوبنهاغن يوم 16 مارس/ آذار الماضي. ورأت الصحيفة أنّ الصين "تجد فرصتها لتسجيل انتصار دعائي، والادعاء أنها سيطرت على الفيروس، فيما الوباء ينتشر الآن في أوروبا وأميركا".
الحملة الدعائية التي قامت بها بكين، من خلال تصوير نفسها كبلد منقذ ومتبرع، سرعان ما اعتبرتها صحف إيطالية بأنها "استغلال للارتباك الأوروبي في البداية، وإظهار أنّ النظام الصيني الشمولي تحت حكم الحزب الشيوعي الاستبدادي، أفضل من الديمقراطيات الفوضوية في أوروبا"، بحسب صحيفة "أل فوليو". واعتبرت الصحيفة، إلى جانب غيرها من وسائل إعلام وآراء ساسة أوروبيين، أنّ "الصين تحاول تلميع صورتها وإبعاد الناس عن السؤال الجوهري حول تأخرها في الإعلان عن تفشي الفيروس في ووهان، قبل انتقاله نحو بقية المناطق وإلى خارج البلد".
وكشفت الصحيفة نفسها أنّ ما يسمى مساعدات، بما فيها تلك التي أرسلت إلى إيران والعراق، إلى جانب إيطاليا وغيرها، "ليست مجانية، واستعمل مصطلح تبرع ليظهر للصينيين في وسائل الإعلام المتحدثة باسم الحزب الحاكم أنّ بلدهم يكتسب الاحترام في كل دول العالم، ورئيسهم قوي ولديه مكانة عظيمة".
ومنذ زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى مركز الوباء، ووهان، في 10 مارس الماضي، بدأ الخطاب الصيني يتخذ نهجاً يدفع عن نفسه مسؤولية تفشي كورونا، بل يذهب حكام بكين إلى تصوير سياستهم الحازمة، بالحجر على 60 مليون إنسان، والتحكّم التام بالبشر، وأحياناً إغلاق أبواب مبان سكنية، باللحام، على أنها السياسة التي لا تستطيع الأنظمة الديمقراطية ممارستها، لأنها فوضوية وعاجزة.
وبدت السياسة الدعائية واضحة في محاولة استغلال الوباء العالمي للترويج لصورة "الرئيس القوي"، الذي واجه "الوباء العالمي الذي لم تكن الصين مسؤولة عنه"، كما تقول بعض الصحف والمواقع الصينية. وذهب موقع "كيوشي" إلى أبعد من ذلك بالقول إنّ "الرئيس شي كان يعرف بانتشار الفيروس منذ 6 يناير وقد باشر بحربه مبكراً".
في بدايات انتشار الفيروس في الصين، وتحديداً في ووهان، لم يتردّد ساسة الحزب الحاكم، وحكام إقليم هوبي الصيني، في ملاحقة كل من يتحدّث عن وجود فيروس جديد، سواء أطباء، مثل الطبيب المتوفى بالفيروس نفسه لي ون ليانغ، أو صحافيين محليين ودوليين. وبعد أن تزايدت الإصابات والوفيات، اضطرت السلطات للاعتراف رسمياً، سياسياً وطبياً من خلال مجلس الصحة في عموم الصين، وعلى قنواتها المتحدثة بلغات عديدة، بما فيها العربية، أنّ الفيروس مصدره ووهان، وعليه أغلقت سوق الحيوانات الحية في المقاطعة وحظرت دخول وخروج الملايين.
لكن ما إن انتشر الوباء في أكثر من 100 دولة، حتى راحت بكين تعيد النظر في روايتها الأولى، لتعتبر أنه يمنع على الصحافيين والمراسلين القول إنّ مصدر الفيروس هو الصين. وبدا التعميم رسمي حين كتبت المتحدثة باسم الخارجية، هوا تشون يينغ، على حسابها بموقع "تويتر" يوم 12 مارس الماضي أنه "من الخطأ وغير المناسب البتة أن نطلق عليه الفيروس التاجي (كورونا) الصيني". ولعبت تشون يينغ دوراً كبيراً ضمن الماكينة الدعائية الصينية، من خلال إظهار الصين وكأنها باتت المنقذ للعالم، وذهبت إلى اقتباسات من مختلف الدول الصغيرة والكبيرة التي وصلت إليها مساعدات بكين.
في السياق، اعتبر الخبير في السياسات الصينية في كلية كليرمونت ماكينا كوليج (Claremont McKenna College)، مين زين بي، أنه "بما أنّ الوضع تحت السيطرة، فهم يريدون أن يقولوا إنّ زعامة الرئيس شي جين بينغ، وقيادته للحزب الشيوعي، قوية، والرسالة هي مقارنة بين قوته وضعف وارتباك الغرب"، بحسب ما نقلت عنه صحيفة "واشنطن بوست".
من جهته، قال خبير الشؤون الصينية في جامعة كاليفورنيا، فيكتور شي، إنّ كل الكلام الذي خرج من الآلة الدعائية الصينية حول مؤامرة "مجرد مناورة لحرف الناس داخل الصين عن الحقيقة، لكن لو كانت حكومة بكين جادة في الادعاءات لكانت على الأقل اتخذت خطوة ما للردّ على نظرية أنّ الجيش الأميركي هو من نشر الفيروس"، بحسب ما نقلت عنه صحيفة "نيويورك تايمز" في 13 مارس الماضي.
عوامل في مصلحة الدعاية الصينية
الأجواء العامة التي عاشتها القارة الأوروبية والولايات المتحدة، خلال الأسابيع التي تلت الانتشار السريع لجائحة كورونا، والتي غلب عليها طابع الارتباك والانغلاق على الذات، وظهور الاتحاد الأوروبي بغير تنسيق أو ريادة للتصدي لأزمة نقص الموارد الطبية في دول مثل إيطاليا وإسبانيا، والتراشق بين ساسة بروكسل وروما بشكل علني، مع إظهار امتعاض رسمي وشعبي من غياب سياسة التضامن البيني، ساهمت إلى جانب غيرها من العوامل، في منح الدعاية الصينية، والروسية إلى حد ما، بعض رياح دافعة لسرديتها، قبل أن تبدأ القارة العجوز باستعادة بعض توازنها في عمل جماعي، أقله بسحب ذرائع تلميع الصورة الذي سعت إليه بكين.
ولأنّ الصين ليست غريبة عن القارة الأوروبية، وبالتأكيد تدرك تقسيماتها السياسية، ووجود معسكر متشكك تجاه الاتحاد الأوروبي، وتراجع شعبية الأخير في الدول المأزومة، فقد كان واضحاً تركيز وسائل الإعلام الصينية، والمتحدثين الرسميين باسم بكين، مثل المتحدثة باسم الخارجية تشون بينغ، ونشاطها على "تويتر" بالإنكليزية، على عرض آراء معسكر اليمين المتشدد والمتشككين بالاتحاد، على أنه موقف أوروبا الممتن للصين.
وعلى هذا المنوال، ذهبت البروباغندا الصينية إلى إبراز موقف وزير الخارجية الإيطالي، لويجي دي مايو، يوم وصول طائرة تحمل معدات وطاقماً طبياً صينياً، عبر مشاركة فيديو نشره على صفحته بموقع "فيسبوك"، ونقل ما كتبه عن أنّ "هذا هو ما نسميه تضامناً، اليوم إيطاليا ليست وحدها".
بكين في معرض تبريرها للمسارعة نحو مساعدة إيطاليا، وليس نحو دول آسيوية أو غيرها في العالم العربي على سبيل المثال، تذكر أنها تردّ الجميل لموقف دول جنوب أوروبا التي تضامنت مع الصين إثر الزلزال الذي ضربها قبل أعوام. ولكن الحقيقة أنّ بكين وجدتها فرصة لتحقيق هدف إضافي في مسيرة طويلة نحو الزعامة العالمية، وإن كان ذلك ليس على الطريقتين الأميركية والروسية، بل ببعض "القوة الناعمة"، من خلال إثارة الانتباه بعد زيارة شي إلى ووهان في 10 مارس الماضي، والادعاء أنها انتصرت وأنهت الفيروس الذي حصد وفق تسريبات واتهامات أميركية أكثر بكثير من بضعة آلاف اعترفت بهم بكين. وقد أعلن برلمانيون أميركيون، الأربعاء الماضي، نقلاً عن تقرير سرّي للاستخبارات الأميركية، أنّ بكين كذبت بشأن الحصيلة التي نشرتها لضحايا فيروس كورونا على أراضيها، مؤكّدين أنّ العدد الحقيقي للوفيات الناجمة عن الوباء أعلى بكثير.
عقبات أمام دور عالمي
لزمن طويل، سعت الصين لأن تصبح مركز قوة عظمى مسؤولة، وركزت كثيراً على الجانب العسكري، وأهملت جوانب أخرى. وخلال العقود الماضية، بات الاقتصاد والاستثمارات الخارجية يتسعان بقدر توسع أحلام بكين في أن تشكّل قطباً مستقلاً في مقابل القطب الغربي. وافتقرت الصين في علاقتها بالمجتمعات الغربية إلى القوة الناعمة، بخلفية إنسانية وثقافية وفكرية للحصول على نفوذ يكسبها احترام المجتمعات الديمقراطية. وعلى الرغم من جهود كثيرة، وإن نجحت في بعض مناطق نفوذها في أفريقيا وبعض الدول الآسيوية، إلا أنّ السياسات الدعائية الصينية تصطدم على الدوام بانتقادات حقوقية غربية بسبب نظامها الشمولي، وتركيبة النظام السياسي فيها. وعوض أن تنتج سياسات الاستثمار المالي في الغرب شعبية للصين، فقد أثارت تصرفاتها انتقادات، ومن بينها الاتهامات المتلاحقة لها بمحاولة تقويض النظام الديمقراطي في أكثر من مكان، واستخدامها سياسات تجسس واختراق، وفقاً لاتهامات غربية، وتوتير علاقات بسبب مواقف قوى وأحزاب في الأنظمة التعددية منها. ولذلك، لم تستطع الصين أن تشكّل اختراقاً حقيقياً في أوروبا، بل على العكس من ذلك لا تخلو التقارير الأمنية من تحذيرات حول خطر استثمارات وشركات الصين على أوروبا.
وبتحركاتها الأخيرة، تزامناً مع تفشي وباء كورونا، اعتبرت بكين أنّ الفرصة سانحة لها لإظهار أنّ نظامها السياسي فعّال وقادر على التعاون، وأنّ أنشطتها العالمية تقوم على مبدأ التضامن والتعاطف. بيد أنّ الصين تواجه كثيراً من العقبات، وربما أكثرها وأعقدها، ما تجلبه على نفسها بسياسات دعائية تحريضية وأقرب إلى الشعبوية، عبر تحريض الماكينة الدعائية للحزب الشيوعي الصيني على الأجانب. وقد أشارت العديد من التقارير عن تعرض المقيمين في الصين لمضايقات أكثر مما تعرض له الصينيون في أوروبا في الأيام الأولى لظهور فيروس كورونا. وهي تبني سياسة تغيب عنها الشفافية والحريات الأساسية، محاولةً فرض تصورها، وتصدير خطاب إنكار وتسويف وتسويغ وشرعنة ملاحقة الصحافة وأصحاب الرأي، والتي ستبقى كلها وغيرها عقبات في طريق هذه "القوة الناعمة". فهي قوة ظهر فشلها في إقناع كثيرين، من غير الناقمين أصلاً على الاتحاد الأوروبي، ولا سيما حين تكتشف المجتمعات أنّ "المساعدة" أو ما صُدّر إليها، وبالأخص في ملف حساس كالملف الطبي في مواجهة جائحة عالمية، دون المستوى، عدا عن تحميل كثيرين لبكين مسؤولية تأخير دق ناقوس خطر الوباء، حفاظاً على صورتها الخارجية.
غياب الشفافية وبقاء التشكيك حتى في مسألة تغلب الصين على الفيروس، باستعراض هزيمته من خلال الرئيس شي جين بينغ، تجعل المسافة أطول بين أهداف الصين في التحول إلى قوة عالمية مقبولة، وسياساتها التي لا تخلو صحيفة غربية من الانتقادات لها، وخصوصاً طريقة تعاطيها مع مواطنيها تحت بند "إعادة التثقيف" (الذي يستهدف المسلمين الإيغور في الصين)، والذي يثير الكثير من الاستغراب حتى في صفوف حلفاء الصين التقليديين، أو الشارع العادي؛ سواء في العالم الإسلامي أو العربي، وليس موقف الحكومات فحسب، وهو ما ينطبق أيضاً على أوروبا.