مفاجأة الـ"نعم"
وكانت مسألة عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي قد أصبحت محط جدل، بعيد انتخابات البرلمان الأوروبي عام 2014، والتي حصد فيها حزب استقلال بريطانيا، المعارض لعضوية الاتحاد، على أكبر عدد من المقاعد البريطانية داخل هذا البرلمان. وشهد العام التالي، انتخابات برلمانية في بريطانيا، تعهد فيها حزب المحافظين الحاكم بإجراء استفتاء على عضوية الاتحاد، في مسعىً منه للحفاظ على قاعدته الشعبية التي بدأت تنشق لصالح الحزب الذي قاده نايجل فاراج. لم يكن أحد ليتوقع نجاح معسكر مغادرة الاتحاد، لدرجة أن ديفيد كاميرون منع الدوائر الحكومية من التحضير لاحتمال بريكست.
وأتت المفاجأة صباح 24 يونيو/ حزيران 2016، عندما صوّت نحو 52 في المائة من البريطانيين لصالح بريكست. تبعت ذلك استقالة كاميرون من منصبه في رئاسة الوزراء، وانتخابات في حزب المحافظين على نمط صراع العروش، فشل فيها بوريس جونسون في الوصول إلى زعامة الحزب، لتنجح تيريزا ماي، التي كانت من التيار المعارض لبريكست. وشهدت تلك المرحلة الأولى بذور الاضطرابات التي عرفتها السنوات التالية. فلم تكن الحكومة البريطانية مدركة لطبيعة الخروج الذي ترغب به، ولم تصل زعامات معسكر بريكست إلى رئاسة الوزراء بعد نجاحها في الاستفتاء، وكان الجميع على عجل، بمن فيهم زعيم حزب العمال جيريمي كوربن، للتقدّم بطلب الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وتفعيل المادة 50 من معاهدة لشبونة.
وسرعان ما دخلت بريطانيا بعد ذلك في جولات من النقاشات السياسية الداخلية التي اختلفت في ما بينها على شكل بريكست. ومع الوقت، تطوّر تيار يرغب بخروج كامل من مؤسسات الاتحاد الأوروبي، بما فيها السوق المشتركة والاتحاد الجمركي، بهدف السيطرة الكلية على الهجرة والصفقات التجارية التي ستبرمها بريطانيا بعد الخروج من الاتحاد. وفي الطرف المقابل، تبلور تيار آخر يدعو إلى بريكست مخفف، يشمل التزام بريطانيا بالاتحاد الجمركي الأوروبي، على شاكلة عدد من الدول الأوروبية الأخرى، مثل النرويج أو سويسرا. وبينما اتجه التيار الأول لشق طريق بريطانيا بشكل بعيد عن الاتحاد الأوروبي، رأى التيار الثاني أن مستقبل بريطانيا مضمون فقط في قربها من الاتحاد. ونظراً لعدم امتلاك تيريزا ماي مساراً واضحاً حول بريكست، ارتأت أن تجمع التيارين في حكومتها، وهو ما ثبت أنه خطأ آخر في هذا الطريق.
وكشفت الأشهر التالية أن خير الأمور في ما يتعلق ببريكست، لم يكن أوسطها. ارتأت ماي أن تقامر بإجراء انتخابات عامة مبكرة صيف عام 2017، مدفوعة باستطلاعات الرأي التي منحت حزبها تقدّماً كبيراً على منافسه حزب العمال. إلا أن مقامرتها تلك كانت خاطئة، إذ فَقَد المحافظون الأغلبية البرلمانية، واضطروا للتحالف مع الحزب الاتحادي الديمقراطي الأيرلندي، لضمان الأغلبية العددية في برلمان ويستمنستر. كما ارتفعت أسهم التيار المطالب بالبقاء في الاتحاد الأوروبي عبر الاستفتاء الثاني على بريكست، ضمن أحزاب المعارضة التي عززت حضورها في البرلمان.
ودفعت تلك التجاذبات بين مؤيدي بريكست مخفف ومشدد في حكومة ماي العديد من وزرائها إلى الاستقالة كلما احتد وطيس المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي. ومما عقّد من مهمة ماي أيضاً، اعتماد الاتحاد الأوروبي منهجية في المفاوضات تقوم على التفاوض ككتلةٍ واحدة من خلال المفوضية الأوروبية، وليس كما كانت ترغب بريطانيا في التفاوض مع كل دولة أوروبية على حدة، وهو ما كان خياراً موفقاً للتصدي لسياسة "فرّق تسُد" التي اشتهرت بها بريطانيا. كما أن بروكسل كانت شديدة الوضوح حيال ما تريده من لندن: ضماناً لحقوق مواطنيها في بريطانيا، وحلّاً لمعضلة الحدود الأيرلندية، وضماناً للالتزامات المالية البريطانية في ميزانية الاتحاد الأوروبي، كنقاط أساسية للمرحلة الأولى من المفاوضات. وليتبع ذلك إبرام اتفاق الخروج من الاتحاد، ليخوض الطرفان بعد ذلك المفاوضات التجارية حتى نهاية ديسمبر المقبل، والتي سترسم العلاقة بينهما بعد بريكست.
وكان وضوح الموقف الأوروبي وتخبّط نظيره البريطاني، السمة الرئيسية لمفاوضات بريكست في الفترة بين انتخابات عامي 2017 و2019. ونجح الاتحاد الأوروبي في التحكّم بإيقاع المفاوضات خلال هذه الفترة، التي كانت المعضلة الرئيسية خلالها مسألة أيرلندا الشمالية، وطبيعة الحدود في الجزيرة الأيرلندية، والتي ترتبط بدورها بطبيعة العلاقة الجمركية بين لندن وبروكسل. وكان الهدف المعلن للطرفين الإبقاء على غياب البنية الحدودية في الجزيرة الأيرلندية حفاظاً على اتفاق الجمعة العظيمة للسلام، الذي أنهى الحرب الأهلية. إلا أن تطبيق هذه الأهداف كان مسألة أشد تعقيداً، وكي لا تقام الحدود في الجزيرة الأيرلندية، يجب أن تظل أيرلندا الشمالية جزءاً من الاتحاد الجمركي الأوروبي. وكان ذلك مرفوضاً كلياً من قبل متشددي بريكست والاتحادي الديمقراطي الأيرلندي، اللذين رأيا في هذه التسوية خضوعاً بريطانياً للاتحاد الأوروبي، وتهديداً لوحدة الأراضي البريطانية.
ومع نفاد الوقت أمام المفاوضين، إذ كان بريكست مقرراً في نهاية مارس/ آذار 2019، أعلنت حكومة ماي في ديسمبر/ كانون الأول 2018 عن توصلها لاتفاق مع الاتحاد الأوروبي. إلا أن صفقة ماي دخلت التاريخ السياسي البريطاني بوصفها الأكثر فشلاً في مجلس العموم. فلم تحظ صفقتها بدعم متشددي بريكست، ولا بدعم المعتدلين. كما فشلت في الحصول على تأييد المعارضة التي كانت منقسمة أيضاً على نفسها بين دعم الاستفتاء الثاني أو بريكست مخفف. ورفض البرلمان البريطاني الصفقة في ثلاث مناسبات وبأغلبية كبرى، انتهت بانتزاع البرلمان السيطرة على أجندة أعماله وإجبار ماي على طلب تأجيل موعد الخروج، تجنباً لسيناريو بريكست بلا اتفاق، الذي أصبح فزاعة تجمع البرلمانيين المختلفين. وبعد تأجيل أول إلى 12 إبريل/ نيسان 2019، تم تأجيل بريكست مرة ثانية إلى 31 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
الفصل الأخير مع جونسون
على الرغم من محاولاتها إنقاذ اتفاق بريكست بالترغيب والترهيب، اضطرت تيريزا ماي في نهاية مايو/ أيار 2019 إلى إعلان استقالتها بعدما تمرد عليها حزبها، وسُدّت كل الطرق في وجه صفقتها. ونظمت في صيف 2019 انتخابات حزبية داخل المحافظين بهدف اختيار خليفة لماي، كان بوريس جونسون المرشح الأقوى والأوفر حظاً منذ بدايتها، وهو ما حصل في نهاية يوليو/ تموز، ليفتتح الفصل الأخير من قصة بريكست.
اختار جونسون المواجهة مع البرلمان البريطاني، موجهاً إليه اللوم في إعاقة بريكست، ومؤكداً في الوقت ذاته أن بريطانيا ستخرج من الاتحاد الأوروبي في الموعد المقرر يوم 31 أكتوبر، مهما كان الثمن. وحاول جونسون قدر المستطاع تجنّب المحاسبة البرلمانية، وهو ما وصل إلى ذروته في تعليق عمل البرلمان لمدة خمسة أسابيع بحجة ضرورة بدء جولة جديدة من الجلسات البرلمانية، تفتتحها الملكة إليزابيث الثانية بخطاب ملكي. إلا أن القضاء البريطاني تدخّل في سابقة تاريخية في مسألة سياسية، وأجبرت المحكمة العليا الحكومة على عودة الجلسات البرلمانية. كما نجح البرلمان البريطاني مجدداً، ومدفوعاً بالخوف المشترك من بريكست من دون اتفاق، في إجبار جونسون على طلب تأجيل موعد بريكست للمرة الثالثة.
وتزامن ذلك أيضاً مع تمكن رئيس الوزراء البريطاني من التوصل إلى اتفاق جديد مع الاتحاد الأوروبي، لقي المعارضة ذاتها التي واجهتها ماي. إلا أن جونسون لعب أوراقه بصورة أفضل عندما خيّر البرلمان بين القبول بصفقته أو التوجه إلى انتخابات عامة. وعزّز من موقفه نجاح استراتيجيته التي أقنعت البريطانيين بمسؤولية البرلمان عن المماطلة في الخروج من الاتحاد الأوروبي، والتي تعيق الحكومة عن الالتفات إلى مشاغلهم اليومية من صحة وتعليم وأمن. وبذلك دخل جونسون الانتخابات في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بفارق كبير في استطلاعات الرأي، ليخرج منها بأغلبية برلمانية كبيرة وصلت إلى 80 مقعداً، لم تتح لأي رئيس وزراء بريطاني منذ عقود.
لم يوفر جونسون حينها وقتاً في التباهي بنصره الجديد، عندما أقر في آخر أيام انعقاد البرلمان عام 2019، مشروع قانون اتفاق بريكست. وكان حينها أيضاً أن انتصر فعلاً معسكر الخروج من الاتحاد الأوروبي، ليهيمن تيار جونسون على حزب المحافظين، وتنهار المعارضة العمالية في البرلمان، وتدخل مرحلة جديدة من البحث عن النفس بعد استقالة جيريمي كوربن من منصبه، بينما خسرت جو سوينسون، زعيمة حزب الليبراليين الديمقراطيين، مقعدها في البرلمان الجديد. أما حزب استقلال المملكة المتحدة، وخليفته حزب بريكست، فقد خبا نجماهما بالسرعة ذاتها التي سطعا بها، بعدما بات بريكست محتماً.