على العكس، حرصت واشنطن على إبداء تفهمها، وإن بصورة مبطنة للموقفين التركي والروسي الواقفين على طرفي نقيض في إدلب. وكأنها تحث وتراهن على أمرين في آن: رفع التصعيد في إدلب بين أنقرة وموسكو، وبما ينسحب بالنهاية على علاقتهما الجديدة التي سرعان ما صارت سريعة العطب. وثانياً تشجيع أنقرة على تعنيف الاشتباك مع حليفي موسكو هناك خاصة المليشيات المحسوبة على إيران التي تقاتل مع القوات السورية.
في الوقت ذاته، حرصت الإدارة الأميركية على النأي عن إدانة الدور العسكري الروسي في عمليات إدلب، وكأنها تراه ضرورياً لحفز تركيا على تكثيف حربها ضد القوات السورية واستطراداً ضد المليشيات الإيرانية.
قبل مغادرته إلى تركيا والمنطقة، تحدث المبعوث الخاص لسورية السفير جيمس جيفري، في لقاء مع الصحافة، لعرض موقف الإدارة عشية زيارته. اللافت في كلامه أنّه خلا من لغة توزيع المسؤوليات، ومن الدعوة بلغة حازمة لوقف العمليات العسكرية. اكتفى بسرد التطورات والاتصالات بطريقة تفيد بأنّ المعادلة باقية على حالها وأكثر، كأنّ هناك رغبة بأن تتحول إلى عملية استنزاف للمشاركين فيها، غير الكبار.
وقال جيفري إنّ الإدارة سألت الأتراك "عما يحتاجونه من مساعدة"، في إشارة واضحة إلى دعم واشنطن للحملة التركية في منطقة إدلب. الإدارة نفسها التي لم تخف، قبل فترة قصيرة، عدم ارتياحها لاستمرار التقارب التركي-الروسي، تعرب الآن عن استعدادها لدعم سياسة أنقرة في شمال غربي سورية.
وفي سياق إشادته بقدرات تركيا العسكرية "الكفؤة"، نوّه جيفري بأهمية "التحصينات التي تقيمها لمواقعها" في منطقة إدلب، مع الحرص على الإشارة إلى أنّه "ليس هناك من دليل على وجود نية تركية للتراجع عنها". وكأنّه يحض ضمناً على تشبث أنقرة بهذه المواقع باعتبار أنّ من شأن ذلك صبّ الزيت على نار المواجهة مع القوات السورية والمليشياوية المتقدمة باتجاه المدينة، وبالتالي مفاقمة التأزم بين أنقرة وموسكو، والذي تبدى بتعذر التوافق بينهما بعد الاجتماعين الأخيرين.
في المقابل، تعرّض جيفري لدور موسكو بلغة مزدوجة تجمع بين منحها الأسباب التخفيفية، وفي الوقت ذاته مطالبتها بصورة ضبابية، بضرورة تغيير سياستها السورية، من دون تحديد إطار مثل هذا التغيير.
يرى جيفري أنّ "روسيا تبدو وكأنها تشعر بعدم القدرة على حمل النظام السوري على القيام بما هو ضروري للانسجام مع التوقعات الدولية". وإذ يعترف بأنّ واشنطن "لحظت الصعوبات التي تواجهها موسكو في هذا المجال"، إلا أنّه يسارع إلى القول إنّ "حكومة بشار الأسد لا تقوى على البقاء لمدة أسبوع من دون مساعدة روسيا الميدانية والدبلوماسية والاقتصادية".
وفي ضوء هذا الواقع، فإنّ موسكو تبدو "عازمة على المضي في العملية حتى النصر العسكري"، حسب تعبيره.
تفهم يغلّف نفض يد من الوضع، بحيث يستمر النزف على حساب إدلب وبالتالي سورية التي تتحول إلى ساحة صراعات أوسع تنخرط فيها القوى الإقليمية والمحلية وبالنهاية يتحكم الكبيران بخلاصاتها وبما يسمح لهما بإعادة تقسيم الكعكة السورية ثم الإقليمية، فلا يبدو أن إدارة دونالد ترامب في وارد لعب دور يحول دون وصول الصراع في إدلب إلى خواتمه الكارثية. ويبقى خيارها إدارة هذا الصراع وفق حساباتها الإقليمية التي تتقدم على غيرها من الاعتبارات.