من الاستثمار للسياسات: قلق مصري من تأثيرات فوز آبي أحمد

13 أكتوبر 2019
اجتاح الغضب دائرة السيسي بعد فوز آبي أحمد (الأناضول)
+ الخط -

تعمّد الإعلام الرسمي المصري على مدار اليومين الماضيين إبراز الاتصال الهاتفي الذي أجراه رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بعد تهنئة الأخير له بفوزه بجائزة نوبل للسلام. وتضمن الاتصال بين الرجلين حديثهما للمرة الأولى منذ شهور في قضية سدّ النهضة، و"التوافق على أهمية تجاوز أي معوّقات بشأن مفاوضات السدّ، سعياً للتوصل إلى اتفاق يحقق آمال وتطلعات شعوب الدول الثلاث، مصر والسودان وإثيوبيا، وفي إطار إعلان المبادئ الموقع بينها"، بحسب ما جاء في بيان الرئاسة المصرية عن الاتصال.

لكن بعيداً عن التهنئة الرسمية من السيسي والاحتفاء العلني بالاتصال الإثيوبي، وجّهت دائرة الرئيس المصري، ممثلة بالاستخبارات العامة، تعليمات لوسائل الإعلام المحلية الموالية للنظام، وكذلك للجان الإلكترونية التي تدير صفحات ومجموعات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لإهالة التراب على الفوز التاريخي لآبي أحمد بجائزة نوبل، والتعتيم على الاحتفاء الدولي به. ومن ضمن التعليمات التي عُمِّمَت، محاولة تصوير أن السبب المباشر للفوز، توطيد رئيس الوزراء الإثيوبي علاقته بإسرائيل، وزيارته لحائط المبكى هذا العام، في ما يُعَدّ إخلالاً واضحاً بحقائق الأمور، وتجاهلاً لمجريات السياسة في المنطقة التي تنتمي إليها مصر، والقارة التي ترأس اتحادها هذا العام.


وانتشرت على صفحات تلك اللجان الإلكترونية، وكذلك مواقع وسائل الإعلام المحلية الموالية للنظام، صورة آبي أحمد وهو يزور حائط المبكى، وكذلك صور لقائه برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي قدّم له التهنئة أول من أمس الجمعة، فضلاً عن إعادة الحديث عن عدم وفائه بتعهده بعدم الإضرار بمصر عبر سدّ النهضة. ويعود هذا "التعهد" إلى يونيو/حزيران 2018، حين تبادل السيسي وأحمد العبارات الدافئة خلال زيارة الأخير للقاهرة، وطلب الرئيس المصري من ضيفه، بصيغة أبوية لافتة ومتعالية، أن يقسم اليمين خلفه على أن إثيوبيا لن تضرّ بمصالح مصر المائية، وردد أحمد خلفه القسم باللغة العربية.

وكانت مصادر دبلوماسية مصرية قد أكدت مساء أول من أمس أن هناك غضباً وتخوفاً كبيرين يجتاحان دائرة السيسي بعد فوز آبي أحمد، ليس فقط بسبب الانعكاسات المحتملة على ملف سدّ النهضة، كما نشرت "العربي الجديد" في تقرير لها أمس، بل إن هناك قلقاً من الاحتفاء المتزايد من نخب مصرية مختلفة بتجربة آبي أحمد، واحترامها له، خصوصاً بسبب الانفتاح السياسي والتطور الاجتماعي الذي أدخله الأخير على بلاده في ظرف زمني قصير، بالتوازي مع تحويله إثيوبيا إلى قبلة للاستثمارات الأجنبية التي أصبحت أكثر تحمساً لدخول هذه السوق الأفريقية الكبرى، بعد مجهوداته في القضاء على الفساد والمحسوبية واحتكار الأعمال.

وكشفت المصادر أن الدبلوماسيين المصريين، وكذلك قيادات وزارات أخرى ونشطاء العمل الحقوقي والأهلي، بدأوا يدركون جيداً أثر سياسات آبي أحمد على الغرب منذ أشهر، من خلال لقاءاتهم المستمرة بالدوائر الرسمية والمستثمرين وممثلي الجهات المانحة من الدول الأوروبية والولايات المتحدة. هؤلاء عبّروا في مواضع عدة عن أن مصر بوضعها الحالي، والانسداد السياسي والتدهور الاقتصادي الذي تعانيه، ليس بإمكانها الاحتفاظ بوضعها في صدارة اهتماماتهم كوجهة مفضلة للاستثمار الاقتصادي، وحتى لضخّ المساعدات وإقامة المشاريع على مستوى المنطقة. ويأتي ذلك بحسب رأيهم، في ظل الصعود الكبير لإثيوبيا وانفتاح آبي أحمد على الغرب وحماسته لتنفيذ مبادرات تعليمية واجتماعية وإعلامية كانت محظورة أو تواجه صعوبات في أديس أبابا سابقاً، وكذلك التغيير الذي يشهده السودان ويراهن كثيرون على أنه سيكون للأفضل.

وبررت المصادر اهتمام نظام السيسي بتقزيم إنجاز آبي أحمد، ومحاولة حصر أنشطته في نقطة علاقته بإسرائيل، التي تمرّ بأفضل أوقاتها مع مصر تحت حكم السيسي، بأنها محاولة شعبوية لصرف النظر عن الإنجازات الإقليمية التي حققها رئيس الوزراء الإثيوبي في العام الذي كان  يتمنى السيسي فيه استغلاله إيجابياً وهو يرأس الاتحاد الأفريقي، وكذلك لصرف النظر عن الإنجازات في بلاده التي تناقض بصورة تامة الأوضاع في مصر.

وقطع السيسي فترة الصمت مع أحمد، ليصدر بياناً مقتضباً بتهنئته على الفوز، حمل عبارات عامة لم تتضمن إشادة خاصة به، مثل "فوز جديد لقارتنا السمراء الطامحة دوماً إلى السلام والساعية إلى تحقيق الاستقرار والتنمية" و"أتمنى أن تستمر جهودنا البناءة الرامية لإنهاء كافة الصراعات والخلافات في القارة الأفريقية بإرادة من أبنائها وشعوبها العظيمة".

من جهته، كان بيان لجنة نوبل النرويجية قد تضمن في إطار أسباب منحها الجائزة لآبي أحمد، عبارات واضحة عن دوره الرئيسي في حلّ أزمة السودان، وكذلك إصلاحاته الداخلية. هذا البيان زاد تعقيد موقف السيسي، وتوضح رؤية العواصم الكبرى والدوائر العالمية له ولسياساته، هو الواقف على بعد مسافة قصيرة من الفائز بجائزة نوبل للسلام، والمشتبك معه في العديد من مساحات الصراع والتنسيق السياسي والاستراتيجي.

وذكر بيان الفوز بوضوح دور آبي أحمد في الساحة السودانية من خلال رعاية اتفاق إصدار الوثيقة الدستورية وتشكيل المجلس السيادي، الذي ظلّت مصر تعرقله طويلاً لأجل استمرار المجلس العسكري في إدارة شؤون السودان لفترة أطول، قبل أن تلتحق متأخرة بتلك الجهود التوفيقية في الأشواط الأخيرة، لحفظ ماء الوجه وتأكيد موقعها كرئيس للاتحاد الأفريقي، الذي أثبتت الأزمة السودانية هشاشته في مقابل الدور الكبير الذي اضطلعت به دولة المقر، إثيوبيا، في التقريب بين المجلس العسكري والمعارضة.

هذه الحساسيات التي ضربت بجذورها في العلاقة بين السيسي وآبي أحمد، تحوّلت مع مرور الأسابيع الماضية إلى حالة من الندية، عززها أكثر غياب السيسي لأسباب أمنية عن حضور مراسم توقيع الاتفاق النهائي للإعلان الدستوري في السودان وإنابته شخصية غير معروفة تقريباً للأوساط الأفريقية، هو رئيس وزرائه المغمور مصطفى مدبولي. في المقابل، برز الحضور الطاغي لرئيس الوزراء الإثيوبي والاحتفاء الكبير به من السودانيين وقادة أفريقيا وممثلي المنظمات الدولية الحاضرين والتصفيق المستمر له، تحية على جهوده في تسوية الأزمة.

وأكد بيان الفوز ملاحظة العالم الغربي وترحيبه بالإصلاحات التي يجريها آبي أحمد على الصعيد المحلي، مثل إلغاء حالة الطوارئ في إثيوبيا، والعفو عن آلاف السجناء السياسيين، وإلغاء الرقابة على الإعلام، والاعتراف بشرعية جماعات المعارضة المحظورة سابقاً، وسجن وعزل القادة العسكريين والمدنيين الذين يشتبه في ضلوعهم في الفساد، والتعهد بتعزيز الديمقراطية من خلال إجراء انتخابات حرة ونزيهة، وهي سمات مناقضة لسياسات السيسي في مصر، على الرغم من الخلفية العسكرية والاستخباراتية للرجلين.

وفي فبراير/شباط الماضي، حرص الطرفان المصري والإثيوبي على إظهار التوافق بينهما خلال قمة الاتحاد الأفريقي، وأهدى أحمد السيسي لوحة تذكارية تعبّر عن وحدة مصير بلديهما، واستفادتهما المشتركة حضارياً واجتماعياً من مياه النيل. على الرغم من ذلك، سببت حالةً من الفتور بين الرجلين في إفشال مساعي وزارتي خارجية البلدين لعقد جلسة مباحثات بينهما في سبتمبر/أيلول الماضي على هامش مشاركتهما في القمة السابعة لمؤتمر طوكيو الدولي للتنمية الأفريقية (تيكاد) في اليابان.

وتجتاح مصر موجة من الانزعاج الرسمي والشعبي بسبب وصول المفاوضات إلى طريق مسدود، بحسب وصف الحكومة المصرية، على الرغم من أن السيسي كان قد صرّح مطلع عام 2018 بأنه "لم تكن هناك أزمة من الأساس حول سدّ النهضة"، بعد اجتماع في أديس أبابا مع نظيره السوداني عمر البشير ورئيس الوزراء الإثيوبي السابق هايلي ميريام ديسالين، على هامش حضورهم قمة الاتحاد الأفريقي. وخالف السيسي بذلك كل التصريحات الرسمية المصرية التي أبدى فيها المسؤولون قلقهم وغضبهم من تردي المفاوضات، وميل الخرطوم إلى مواقف أديس أبابا، وعدم مراعاتهما المخاوف المصرية من تفاقم الفقر المائي.