حروب قبائل السودان: تاريخ لا ينتهي من الصراعات الدموية

27 اغسطس 2019
يغذي نزاع بورتسودان انتشار السلاح في أيدي القبائل (Getty)
+ الخط -
منذ شهر يونيو/حزيران الماضي، تعيش مدينة بورتسودان السودانية (شمال شرق – عاصمة ولاية البحر الأحمر)، والتي تشكل الميناء الرئيسي للبلاد، حالةً من التوتر والقلق، نتيجة اندلاع نزاعٍ قبلي طاحن بين قبيلتي البني عامر والنوبة، ما أدى حتى الآن إلى مقتل 50 شخصاً، وإصابة نحو 200 آخرين، فضلاً عن حرق مئات المنازل وغيرها من الممتلكات التي تعود للمدنيين.
وألقى النزاع بثقله على الثورة السودانية، محدثاً صدمة قوية لدى أنصارها، ولدى المتفائلين بنجاحها، لجهة كونه الأول من نوعه بعد تمكن هذه الثورة التي انطلقت في إبريل/نيسان الماضي من إطاحة نظام الرئيس عمر البشير، المتهم خلال الـ30 عاماً من حكمه، باستغلال مسألة القبلية في البلاد، ضمن أجندته السياسية والعسكرية والأمنية، مع اللجوء إلى سياسة ضرب القبائل في ما بينها، خاصة في إقليم دارفور، الذي عاش واحدة من أسوأ الحروب والنزاعات القبلية التي دارت في السودان.
ومن المعروف أن للسودان تاريخاً طويلاً مع النزاعات القبلية، ولا سيما في المناطق الواقعة غربي البلاد، وتقدر إحصاءات غير رسمية مصرع 250 ألف شخص، ونزوح أكثر من مليونين ونصف المليون، بسبب هذا النوع من الصراعات، علماً أن أغلب القتلى والجرحى سقطوا في دارفور.

ويمثل غياب التنمية والوعي، وانتشار السلاح في أيدي القبائل، والاضطرابات الأمنية في دول الجوار السوداني، عوامل أساسية لتنامي ظاهرة النزاعات القبلية واستفحالها، كما لعب الصراع التقليدي بين المزارعين والرعاة دوره الكبير في تفشيها، هذا عدا عن استغلال العصبية القبلية للحصول على مناصب دستورية، سواءً على مستوى المركز أو الولايات.
ووضع النزاع القبلي في مدينة بورتسودان حكومة رئيس الوزراء الجديد، عبد الله آدم حمدوك، أمام تحدٍّ يضاف إلى جملة تحديات صعبة تواجهها حكومته المرتقبة، أهمها على الإطلاق تحقيق السلام ومعالجة التدهور الاقتصادي وتخفيف أعباء المعيشة التي تثقل كاهل السودانيين، فضلاً عن استكمال بناء حلقات التحول الديموقراطي في البلاد، وصولاً إلى الانتخابات العامة المقرر إجراؤها بعد نحو ثلاث سنوات.
ويقول الباحث في الشأن الاجتماعي والمختص بشؤون شرق السودان، عبد الله فقيري، في حديث لـ"العربي الجديد"، "للنزاع بين البني عامر والنوبة، ظلال تاريخية، تعود تحديداً لثمانينيات القرن الماضي، حينما أصدر الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري، قرارات بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في البلاد، ما دفع مجموعات وأفراد محسوبة على قبائل بعينها، لتبني حملات ذات نزعة دينية بهدف محاربة بيع الخمور ومواجهة انتشار الرذيلة، تماشياً مع توجه النظام حينها". لكنه في العام 1986، "سقط عدد كبير من القتلى من الطرفين، وهو ما خلق حساسية دائمة بينهما"، لافتاً في الوقت ذاته إلى "عدم حصول اقتتال مباشر بين بني عامر والنوبة على مدار 40 عاماً، بل على العكس ارتفعت نسبة القدرة على التعايش بينهما، حين تساكنا في أحياء قريبة من بعضها بعضاً".
ويوضح فقيري أنه "بعد حادثة فضّ محيط قيادة الجيش السوداني في الثالث من يونيو/حزيران الماضي، برزت مجموعات متفلتة، أو ما يعرف بمجموعات "النيقرز"، في العديد من المدن السودانية، كان لبورتسودان نصيبٌ منها، إذ نهبت عدداً من أسواق المدينة وأحيائها، ومن بينها أحياء تخص قبيلة البني عامر التي طاردتهم حتى لجأوا إلى مناطق قبيلة النوبة. حينها وقعت صدامات دامية انتهت بمصالحة عبر طريقة "القلد"، وهو عرف اجتماعي سائد، كما بضرورة تشكيل لجنة تحقيق لمحاسبة المتورطين، ولجنة أخرى لتعويض المتضررين. لكن بحسب الباحث الاجتماعي، فقد خرجت لجنة التحقيق التي شكلتها الحكومة المحلية بنتائج هشة وغير شفافة، ما أغضب المتضررين، وأوجد تربة خصبة لتجدد النزاع.
ويشرح فقيري أن الأحداث انفجرت الأربعاء الماضي بين القبيلتين (البني عامر والنوبة) بشكل أكثر مأساوية، في ما يبدو "عبر تحريض مباشر"، من دون أن يستبعد تدخل "أيادٍ داخلية" تابعة لـ"الثورة المضادة"، بحسب رأيه، وتورطها في إشعال فتيل الأزمة، خاصة بعدما برز استخدام السلاح الناري وظهور قناصة في المشهد، ما رفع عدد القتلى والمصابين.
وبالإضافة إلى "الأيادي الداخلية"، يشير فقيري، إلى جهات أخرى "ستستفيد من النزاع لارتباطه بأمن البحر الأحمر، وما يضمه من موانئ رئيسية في البلاد"، معتبراً أن النزاع القبلي قد يؤدي مستقبلاً إلى توقف الميناء، وشح في العمالة، ما يؤثر مباشرة على الاقتصاد السوداني، وتحديداً لعمليات التصدير والتوريد.
ويرى الباحث الاجتماعي السوداني أن الحل للأزمة الحالية يكمن في اتباع الوسائل التقليدية في تحقيق المصالحات القبلية شرق السودان، إضافة لتشكيل لجنة تحقيق قضائية تعمل على تسمية المتورطين في الأحداث وتقديمهم للمحاكمة مع تعويض المتضررين، داعياً إلى سرعة جمع السلاح من أيدي القبيلتين.
سياسياً، يرى القيادي في "قوى إعلان الحرية والتغيير"، إبراهيم الشيخ، أن النزاع القبلي في بورتسودان أو أي نزاع قبلي آخر في السودان، يعتبر تحدياً حقيقياً للسلطة المدنية التي تشكلت خلال الأسابيع الماضية، متوقعاً في حديث لـ"العربي الجديد" أن تؤدي قرارات السلطات المركزية بإقالة والي البحر الأحمر المكلف ومدير جهاز الاستخبارات في الولاية إلى نتائج إيجابية خاصة، مقراً بوجود قصور صاحب التعاطي مع الأحداث منذ تفجرها قبل أكثر من شهرين، ووقوع أخطاء كبيرة زادت عدد الضحايا.
وفي هذا الإطار، يرى الشيخ أن العلاج الأجدى للنزاعات القبلية هو حتمية رتق النسيج الاجتماعي بين المجموعات المختلفة وتلافي أخطاء النظام السابق، مشدداً على دور منظمات المجتمع المدني في السعي لتفكيك المشكلات والحيلولة دون توسعها لتصل إلى مدن أخرى، خاصة ما يتعلق بالنزاع الحالي في بورتسودان، والذي حذر من احتمال امتداده لمدن كسلا والقضارف والخرطوم. ولا يستبعد القيادي في "قوى إعلان الحرية والتغيير" بدوره فرضية تورط جهات سياسية أو "أيدي خفية" في إشعال الأحداث الأخيرة، لكنه يعتبر أنه من المبكر الجزم بذلك من دون القيام بتحقيقات شفافة، مشيراً إلى أن النزاع بين قبيلتي النوبة والبني عامر "صراع قديم مرّ بمحطات مختلفة، وغذّاه انتشار السلاح عند مليشيات النظام السابق والأجهزة الخفية الموالية له".
من جهته، يوضح رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة النيلين فتح أحمد، أن التعاطي مع ملف النزاعات القبلية ينبغي أن يختلف بالكامل عن النهج الذي اتبعه النظام السابق، والذي وفّر حواضن سياسية وأمنية لصراعات كهذه، مشدداً على أهمية تحويل الملف من سياسي إلى قانوني، بعيداً عن اعتماد الأسلوب التقليدي بالمصالحات والأجاويد المعروفة في المجتمع السوداني، وهي معالجات، بحسب تقديره، أثبتت فشلها طوال السنوات الماضية، ولن يكتب لها النجاح اليوم.
ويوضح أحمد، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أنه لا بد من التعامل الحاسم مع أي تفلتات، وتقديم كل الجناة للمحاكمة وتحميل الزعامات القبلية المسؤولية، في حالة تحرك النزاع على أساس ممنهج وبصورة جماعية تحت إشراف تلك الزعامات. كما يشدد رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة النيلين على ضرورة حياد القوات النظامية والسلطات المحلية التي تتعامل مع النزاعات القبلية من دون الاكتفاء بالإقالات، بل تقديم المتورطين للعدالة من دون انحياز.
دلالات
المساهمون