تحركات سرّية لمدير مكتب السيسي لإنهاء "تيار الزند"

03 يونيو 2016
وجود رجال الزند في القضاء يقلق السيسي(خالد دسوقي/فرانس برس)
+ الخط -
تشهد أروقة القضاء المصري تحركات سرية موسّعة لإعادة صياغة علاقات القوى بين أجهزته وإعادة تحديد مراكز القوى فيه، يقودها بصفة شخصية مدير مكتب الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، مدير الدائرة المخابراتية ـ الرقابية، اللواء عباس كامل. وتهدف هذه التحركات المكثفة للقضاء على ما يمكن وصفه بـ"فلول" وزير العدل السابق أحمد الزند، الذين يديرون حتى الآن نادي القضاة. ويوجد هؤلاء بكثافة في مناصب قيادية في المحاكم الابتدائية، ويديرون دوائر مهمة في مختلف المحاكم الابتدائية والاستئنافية.

كما تهدف التحركات إلى منع ظهور الزند مرة أخرى بشكل نهائي في واجهة المشهد القضائي، وتدجين الوسط القضائي بصفة عامة، بحيث تتقلص أهمية النادي التي حافظ عليها سواء في عهد تيار الاستقلال أو عهد الزند على مدار 15 عاماً. ويضاف إلى هذه الأهداف، إعادة أدوات التحكم في القضاء كاملة إلى مؤسستَين لا ثالث لهما، هما مجلس القضاء الأعلى ووزارة العدل، ليكون جميع القضاة تحت سيطرة الدولة بشكل غير مباشر. وعلى مدار أسبوعين، التقت "العربي الجديد" خمسة مصادر قضائية رفيعة المستوى، منهم اثنان بمحكمة النقض وثلاثة بمحكمة استئناف القاهرة، وواحد من الثلاثة يعمل منتدباً بمنصب إداري في وزارة العدل. ويجمع هؤلاء على رواية واحدة، تكاد تكون متطابقة، للتحركات التي قادها عباس كامل.

وبدأت الأحداث بإعلان مجلس إدارة نادي القضاة التابع للزند (كان يرأس هذا المجلس قبل اختياره وزيراً للعدل)، إقامة حفل كبير لافتتاح المقر النهري للنادي على شاطئ النيل بمنطقة العجوزة بالجيزة، على أن يشهد الحفل تكريم الزند باعتباره "أبرز شيوخ القضاة، والرئيس الفخري للنادي، وأسد القضاة"، كما يُعرف بين مؤيديه، وداخل الوسط القضائي والإعلام.
وحدّد مجلس إدارة النادي لهذا الحفل يوم السبت 21 مايو/أيار الماضي، لكن جاء حادث سقوط الطائرة المصرية الآتية من باريس في عرض البحر المتوسط، الخميس 19 مايو/أيار، ليعلن الزند بنفسه تأجيل الحفل إلى يوم الاثنين 23 مايو/أيار.

ولمجرد إصدار الزند هذا البيان، ثارت الدائرة المخابراتية ـ الرقابية برئاسة عباس كامل رافضة عودة ظهور الزند مرة أخرى إلى الواجهة بعد إقالته من منصبه على خلفية الغضب الشعبي من تصريحه الشهير "أحبس النبي"، والذي كاد يتسبب في خصم رصيد كبير من شعبية النظام. فجاء القرار لينقذ شعبية السيسي ويطيح بشخصية كانت محوراً لدائرة مهمة وفاعلة من دوائر النظام المتصارعة، والتي تضم أيضاً قيادات بوزارة الداخلية، والأمن الوطني، والمخابرات والقضاء.

وتؤكد المصادر أن السيسي شخصياً أسقط الزند نهائياً من حساباته، وانقلب عليه لسببَين أعقبا أزمة الإقالة. ويكمن السبب الأول في ممانعة الزند للاستقالة وتحريضه القضاة المؤيدين له على العصيان والتكتل في مقر النادي مساء يوم إقالته وإعلان تحديهم للقرار، حتى تلقوا اتصالات مباشرة من عباس كامل وعدد من أتباعه تأمرهم بفض الاجتماعات المعارضة والعودة لمنازلهم. أما السبب الثاني، فهو أن السيسي بُلّغ تعدي الزند عليه بالقول مرتين بعد إقالته، إذ سبّه ووصفه بأنه "يتخذ قراراته بناءً على تعليمات موقعَي تويتر وفيسبوك"، وهو ما أغضب السيسي بشدة، وأصدر أوامره لعباس كامل بعدم السماح، تحت أي بند، بظهور الزند مرة أخرى.





وبناء على ذلك، صدرت تعليمات من كامل إلى وزير العدل الجديد حسام عبدالرحيم بالتخلص من جميع رجال الزند في وزارة العدل، والتضييق على من لم يقدموا استقالاتهم حتى يرحلوا من تلقاء أنفسهم. وهو ما حدث مثلاً مع أحد أبرز معاوني الزند في فترة توليه الوزارة، على الرغم من أنه لم يكن من مؤيديه المعروفين، وهو المستشار حسن البدراوي مساعد الزند للشؤون التشريعية، العضو السابق بالمحكمة الدستورية العليا، والمرشح أكثر من مرة لتولي حقيبة العدل، على حدّ تعبير المصادر.

كل هذه الخلفيات، وفقاً للمصادر ذاتها، كانت سبباً في ثورة دائرة عباس عندما علمت بمحاولة الزند للظهور مرة أخرى في حفل نادي القضاة، فكان التحرك السريع لعباس بالاتصال مساء الخميس 19 مايو/أيار الماضي (يوم سقوط الطائرة) برئيس مجلس القضاء الأعلى ومحكمة النقض، القاضي أحمد جمال الدين وطلب منه تحديد موعد لزيارته شخصياً في دار القضاء العالي بوسط القاهرة، فتحدد الموعد يوم السبت 21 مايو.

كان رئيس مجلس القضاء يعتقد أن المقابلة تأتي في إطار السؤال عن قضية معينة أو تطورات التحقيقات في قضايا بارزة كمقتل الطالب الإيطالي جوليو ريجيني، أو سقوط الطائرة الروسية فوق سيناء في 31 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أو استعدادات زيارة السيسي المرتقبة (التي تمت الأسبوع الحالي) إلى مقر النيابة العامة الجديد، إذ لم يكن قد حُسم آنذاك ما إذا كان السيسي سيزور المقر الجديد بالقاهرة الجديدة أم سيزور المقر القديم بدار القضاء العالي.

وتشير هذه المصادر إلى أنّ عباس كامل طلب أن يكون الاجتماع بحضور عدد من أعضاء مجلس القضاء الأعلى، فاختار جمال الدين عدداً منهم. وفي الموعد المحدد، جاء عباس كامل بسيارته الخاصة إلى دار القضاء، وبدأ الاجتماع مفاجئاً للحضور بطلب أمر واحد فقط هو عدم السماح بإقامة حفل يوم الاثنين المقرر لتكريم الزند، وبعدم السماح بظهوره مرة أخرى.

فوجئ جمال الدين وزملاؤه بالطلب، فهم بصفتهم قضاة كباراً في السن وخبراء بمحكمة النقض، ولم يكن لهم نشاط اجتماعي أو سياسي من خلال النادي، لم يتوقعوا أن تأتي تعليمات على هذا المستوى لإقحامهم في مشاكل النادي التي يرونها خارج نطاق عملهم المعتاد. وأكد عباس كامل في الاجتماع، وفقاً للمصادر، أن ظهور الزند لم يعد مرغوباً فيه من قبل السيسي، وأنه يخصم من شعبية النظام، ويسيء بأحاديثه المتناثرة في مجالسه الخاصة لقيادة الدولة، ويعتبر أنّ له أياد بيضاء على النظام الحالي من خلال قيادته لتحركات القضاة ضده. وعكس كلام عباس كامل، بوضوح، رؤية السيسي، فهو يرفض أن يكون للنظام أكثر من قطب، وينفر من فكرة وجود أشخاص لهم شعبية تزاحم شعبيته أو لهم كلمة مسموعة أكثر منه، حتى لو كان ذلك داخل طائفة مهنية معينة كالقضاة أو الصحافيين أو الأطباء أو المهندسين، على حدّ تعبير المصادر.







ولم يوارب عباس كامل في القول إن "هناك رغبة في إعادة هيكلة مجلس إدارة نادي القضاة"، فالوضع الحالي يضمن تحكم الزند تماماً في النادي على الرغم من عدم شغله منصباً رسمياً فيه. فقبل تعيين الزند وزيراً للعدل خلفاً لمنافسه اللدود محفوظ صابر في ربيع 2015، كان الزند سيخوض انتخابات رئاسة النادي، كما كان يحاول الوصول لتعيينات البرلمان ليصبح رئيسه، نظراً لأنه كان سيبلغ سن تقاعد القضاة في نهاية يونيو/حزيران الحالي.

وتؤكد المصادر أنّ الزند لقي منافسة محدودة على منصب رئيس النادي، ويخوض جميع المقربين منه الانتخابات التي كانت مقررة في مايو/أيار 2015 على جميع مقاعد مجلس إدارة النادي. إلّا أن توليه منصب الوزارة جعله يقدم على خطوة جريئة، بأن أوعز إلى المشرف على الانتخابات القاضي أحمد نادر باتخاذ قرار بتأجيل الانتخابات لأجل غير مسمى إلى حين الفصل في الطعون المقدّمة من بعض المرشحين المستبعدين على نظام الانتخاب الجديد الذي وضعه الزند ومجلسه.

وبعد اتخاذ قرار التأجيل، عيّن الوزير الزند المشرف على الانتخابات (المفترض أنه حيادي) كأحد مساعديه في ديوان وزارة العدل، واستمر مجلس الزند، من دونه، يقود النادي حتى الآن، مؤتمراً بأمره ومنفذاً لأجندته بالكامل. كانت فترة وزارة الزند، وفقاً لهذه المصادر، تأذن له بالتحكم الكامل في النادي من خلال مساعديه اللصيقين به كظله، وفي مقدمتهم القاضي عبدالله فتحي الذي يشغل الآن منصب رئيس النادي بالإنابة، مما دفع دائرة السيسي للبحث عن بديل والإلحاح في تغيير هذا الوضع القائم.

وانتهى لقاء عباس كامل برئيس مجلس القضاء الأعلى من دون الاتفاق على طرق للحل، لكن لم تمض ساعات معدودة إلاّ وكانت "التخريجات القانونية" قد بدأت في العمل تلبية لإرادة السيسي. فأصدر رئيس مجلس القضاء قراراً باعتباره "رئيس الجمعية العمومية لنادي القضاة" (صفة يكتسبها بمجرد رئاسته محكمة النقض، وليس لها علاقة برئاسة مجلس إدارة النادي). ونص القرار على إلغاء الحفل المزمع إقامته لتكريم الزند بدعوى عدم ملاءمة الوضع الحالي بسبب حادث الطائرة المصرية.

ولم يمض الأسبوع إلاّ وأصدرت محكمة النقض حكماً ببطلان النظام الانتخابي الذي وضعه الزند ومجلس إدارته لانتخاب مجلس الإدارة الجديد، فأصبح لزاماً على مجلس الإدارة البدء من جديد في إجراءات الانتخابات، وهذه المرة من دون الزند الذي لم يعد صالحاً للترشح لأي منصب بسبب بلوغه سن التقاعد نهاية الشهر الحالي، وفقاً للمصادر.






وخلال الأسبوع الماضي، دعا رئيس مجلس القضاء مجلس إدارة نادي القضاة (التابع للزند) إلى 3 اجتماعات متصلة، بحضور عدد من أعضاء مجلس القضاء الأعلى، أمرهم خلالها بسرعة الإعلان عن فتح باب الترشح للانتخابات الجديدة على النظام القديم وليس النظام الذي وضعه الزند لضمان سيطرة مجموعته على مجلس الإدارة. فعاد مجلس الإدارة إلى الزند، وأخبره بأوامر رئيس مجلس القضاء (علماً بوجود حساسيات سابقة بين الرجلين لخلافات بينهما في وضع بعض القوانين العقابية والإجرائية خلال فترة وزارة الزند)، وأبلغه بأن الأمر، على ما يبدو، يأتي تحت ضغوط عليا لاستبعاد مجموعة الزند نهائياً من النادي، أو ضمان ولائها لمجلس القضاء، وإنهاء عهد استقلال النادي بقراراته، وفقاً للمصادر القضائية.

نزلت هذه التطورات على الزند ثقيلة مؤلمة. ووفقاً لأحد المصادر القضائية التي تحدثت لـ"العربي الجديد"، فإن الرجل حاول التواصل مع عدد من الشخصيات النافذة القريبة من عباس كامل والسيسي، لكن من دون جدوى، ولم يرد عليه أحد، فأدرك أخيراً أنه لم يعد مرغوباً به. وترى المصادر أن التحركات التي قام بها عباس كامل خلال شهر مايو/أيار الماضي هي الأخطر في علاقة السلطة بالقضاء المصري منذ الإطاحة بحكم جماعة "الإخوان المسلمين" منتصف عام 2013. فهي تعكس اهتمام رأس النظام بالتحكم الكامل في جميع السلطات الرئيسية، وتحييد أي دوائر لها خطورة استثنائية أو شعبية يمكنها منازعة صلاحيات دائرة السيسي الشخصية.

وتؤكد هذه المصادر أنه إذا نجحت مساعي عباس كامل في إنتاج مجلس إدارة جديد لنادي القضاة بشخصيات جديدة غير التي اعتادت الظهور في كنف الزند، أو شخصيات كانت تابعة للزند ويمكنها الانقلاب عليه، فإن هذا سيكون بمثابة هزيمة نهائية لتيار الزند داخل القضاء المصري، أخذاً في الاعتبار أن السيسي استخدم تيار الزند نفسه في تفكيك تيار الاستقلال القضائي من قبل، وأطاح بمعظم المنتمين إليه من السلك القضائي.

ويقول مصدر قضائي في محكمة النقض، "أعتقد أن هذا هو تعريف السيسي لدولة المؤسسات، فهو لا يعترف بأي تيارات خارج حدود الإدارات الوظيفية البيروقراطية الروتينية التي تأتمر مباشرة بأمره، سواء كانت هذه التيارات متفقة معه في الأهداف النهائية أم لا". ويضيف المصدر أن "فرض سيطرة عباس كامل على مجلس القضاء الأعلى الحالي سيضمن له إدارة المجلس عن بعد خلال العام القضائي المقبل، على الأقل، والأمر نفسه بالنسبة لوزارة العدل". ويوضح أن "أعضاء المجلس والوزير جميعهم شخصيات عادية تفتقر للكاريزما وليست لهم شعبية، لم يختبروا العمل السياسي أو الاجتماعي، كما أنهم يناهزون السبعين عاماً وليست لهم طاقة بتحدي النظام أو قيادة أو تشكيل تيارات جديدة لها شعبية في الوسط القضائي".

ويرى المصدر أن "السيسي يريد تكرار الوضع الذي كان قائماً في معظم سنوات عهدَي الرئيسَين السابقَين أنور السادات وحسني مبارك، وهو أن يكون رئيس نادي القضاة هو نفسه رئيس مجلس القضاء الأعلى أو شخص تابع له مباشرة، بما يضمن التحكم الحكومي الكامل في النادي. ولا يريد النظام إعادة سيناريو استقلال النادي أو ممارسته دوراً خارج الأطر الرسمية، كما حدث منذ تولي القاضي السابق زكريا عبدالعزيز رئاسة النادي لفترة تبعها تولي عدوه اللدود أحمد الزند رئاسة النادي. ففي الفترتَين، كانت سلطة النادي وسطوته على القضاة أكبر بكثير من وزارة العدل أو مجلس القضاء الأعلى"، وفقاً للمصدر ذاته.

وحول المرشحين المحتملين للانتخابات التي تفتح باب الترشيح لها، يوم السبت المقبل، يقول مصدر بمحكمة استئناف القاهرة إن "عدداً من أتباع الزند اتخذوا قراراً بالابتعاد من تلقاء نفسهم، لأنهم يعرفون أن تيار الزند يفتقر الآن الشعبية والسلطة". ويشير إلى أن "الأجواء تسمح الآن بوجود تيار حكومي جديد تابع لوزارة العدل أو مجلس القضاء، وقد يكون على رأسه القاضي محمود الشريف الذي كان ينوي منافسة الزند العام الماضي، وذلك لأن الشريف ليست له أجندة سياسية وطموحات شخصية، ومنفّذ جيد للتعليمات". ويؤكد المصدر أن "الزند لن يرضى بالهزيمة بسهولة"، متوقعاً أن "يخوض بعض مؤيديه الانتخابات لإثارة النزاعات داخل أي مجلس إدارة مقبل، أياً كان تشكيله".


المساهمون