مؤشرات يمنية أخطر من الحرب: البنك والاتصالات والتنقل

17 يوليو 2018
استولى المجلس الانتقالي على مواقع للشرعية بيناير الماضي(فرانس برس)
+ الخط -
بالتوازي مع المعارك العسكرية في اليمن، تدور حروب أخرى قد تكون أكثر تأثيراً على مستقبل هذا البلد. وبينما يكون الأثر المباشر لأي جبهة حرب واقعاً على محيطها الجغرافي، فإن هذه المعارك الموازية تؤثّر مباشرة على الحياة اليومية للمواطن اليمني في جغرافيا البلاد كلها، ومن لم يصله أثرها اليوم، فمن المؤكّد أنه سيصل إليه وإلى أبنائه غداً.

نقل البنك وتداول العملة الجديدة

في 18 سبتمبر/أيلول 2016، أصدر الرئيس عبد ربه منصور هادي من الرياض قراراً جمهورياً أقال بموجبه مجلس إدارة البنك المركزي اليمني، ونقل مقر البنك من صنعاء إلى عدن. كان القرار بداية لسلسلة من القرارات التي أثّرت على معيشة ملايين اليمنيين. وبرّر رئيس الحكومة أحمد بن دغر وقتها نقل البنك بأنه حفاظاً على الاقتصاد والاحتياطي النقدي للبلاد، بعد استنفاد الحوثيين لمعظم احتياطي البلد من العملة الصعبة يومها. وعجز البنك منذ أغسطس/آب 2016 عن الوفاء بدفع مرتبات موظفي الدولة، رغم أن كل المحافظات اليمنية كانت تورد الأموال الحكومية إلى صنعاء، لكن وعد حكومة هادي بالوفاء بالتزامات البنك ومنها دفع المرتبات، لم ينفّذ حتى اليوم.

تمّ تعطيل العمل في بنك صنعاء رسمياً، ومع أنه لا يزال مستمراً حتى اللحظة في إطار محدود، إلا أنّه لم يعد يمتلك سلطة القرار للتعامل كبنك مركزي مع شركاء خارج إطار الأراضي التي يسيطر عليها. ولم يقم الحوثيون بتعيين محافظ للبنك الواقع تحت سلطتهم، بل اكتفوا بتسيير الأعمال من قبل قيادات سابقة انضمت للحوثيين وعملت تحت سلطتهم. وبعد أشهر من رفضهم قرار نقل البنك إلى عدن، رضخوا للأمر وقاموا بتسليم "السويفت كود" الخاص بالتعاملات المالية للبنك إلى بنك عدن، حيث لم يكن للبنك خوادم احتياطية لحفظ البيانات خارج البلد كما هي العادة مع البنوك المركزية الأخرى. لكن الحوثيين رفضوا تحويل الإيرادات المالية الرسمية للمناطق الواقعة تحت سلطتهم إلى البنك في مقره الجديد، فتذرّعت الحكومة بذلك الرفض ولم تتكفل بدفع مرتبات الموظفين رغم أنها مسؤولية تقع على عاتقها.

في المقابل، عجز البنك في عدن عن استئناف نشاطه كبنك مركزي، فالخبرات البشرية موجودة في صنعاء، ولم يستطع الكادر الوظيفي بعدن التعامل مع "السويفت كود" قبل الحصول على تدريب مطوّل تكفلّت به أبو ظبي. لكنّ الخبرات البشرية من دون أموال غير قادرة على توفير مرتبات مليون و200 ألف موظّف حكومي يمني، إذ لم تحصل الحكومة الشرعية على المال اللازم للعمل، ولم تنجح في منع تدهور قيمة العملة الوطنية ولا دفع المرتبات، إلا بشكل متقطع أو في حدود الأراضي التي تقع نظرياً تحت سلطتها، ولجأت للقيام بذلك إلى طبع مبالغ هائلة من الريال اليمني من دون غطاء.

وتعرّضت العملة الجديدة التي طبعت لعراقيل من التحالف أكثر من مرة، لمنع وصولها إلى عدن. وبعد مساع كثيرة للحوثيين للحصول على جزء من النقود المطبوعة ولكن من دون نتيجة، لجأت الجماعة إلى إصدار قرار بمنع تداول العملة الجديدة التي تم طبعها لبنك عدن المعترف به دولياً. وتمّ تفسير هذا السلوك الحوثي بأنه عملية فصل ناعمة للجسد الاقتصادي للبلد، حيث يتم تداول العملة عبر المبادلات التجارية المستمرة بين كل المناطق اليمنية. ولم يقم الحوثيون بتعويض الصرافين وكبار التجار عن المبالغ التي تمت مصادرتها منهم بعد قرار منع تداول فئتي الـ1000 ريال، والـ500 ريال، حتى بعد تخفيفهم القيود على تداول العملة الجديدة أخيراً نتيجة ضغوط من مناطق سيطرة الشرعية، كانت ستؤدي إلى منع الغاز المنزلي عن مناطق الحوثيين.

خلاصة تجربة نقل البنك أدّت عملياً إلى وجود بنكين مركزيين أحدهما في عدن والآخر في صنعاء، كل منهما يعاني الشلل ولا يستطيع القيام بوظائفه الأساسية على الصعيد الوطني. رسم هذا الانشطار الثنائي للبنك خريطة حدود اقتصادية جديدة للجغرافيا اليمنية، وقد تكون بذرة الخريطة السياسية للبلد مستقبلاً.

الاتصالات

في 18 يونيو/حزيران الماضي، دشّن هادي في عدن شركة اتصالات حكومية جديدة متخصصة في تقديم خدمات الإنترنت تحت اسم "عدن نت". وبنفس نمط مبررات نقل البنك التي ركّزت على منع الحوثيين من الهيمنة على الاقتصاد وحرمانهم من الموارد المالية، جاءت مبررات إطلاق شركة اتصالات عدن، بمبرر كسر احتكار مؤسسة الاتصالات الواقعة تحت سلطة الحوثيين لخدمة الاتصالات والإنترنت، وحرمانها من عشرات الملايين من الدولارات سنوياً. كذلك، كان هناك مبرّر آخر، وهو منع الرقابة التي تمارسها سلطة الحوثيين على الاتصالات، وحظرها للمواقع التي تناهضها، وتحكمها باتصالات المواطنين بمن فيهم قيادات الشرعية. وكانت هذه النقطة قد أثّرت عملياً على سير معركة صنعاء بين الحوثيين وقوات حليفهم السابق علي عبدالله صالح مطلع ديسمبر/كانون الأول الماضي.

ومباشرة بعد تدشين هادي للشركة التي لم تبدأ بتقديم خدماتها بعد، حدث انقطاع لخدمات الاتصالات في محافظة لحج الجنوبية، بمبرر اعتداء على كابلات الألياف الموصولة بها. وبعدها بأسبوعين تقريباً، حدث شلل متقطع لخدمات الإنترنت في عموم اليمن، نتيجة انقطاع الألياف الضوئية في مناطق الحوثيين. وبدا ذلك وكأنه بالون اختبار من الحوثيين لردود الفعل على قيامهم بقطع الاتصالات في اليمن، لكنه أعطى مبرراً إضافياً لهادي لتدشين شركة اتصالات عدن.

وبينما اقتصر حديث وزير الاتصالات وتقنية المعلومات في حكومة بن دغر، لطفي باشريف، على تصريحات صحافية عن توفير الخدمة في (المناطق المحررة)، أي أن الشركة ستكون خاصة بالمحافظات الواقعة تحت سيطرة حكومته فقط، فإن بن دغر قال في كلمته خلال افتتاح المشروع إنّ الأخير يعدّ الأضخم والأكبر في اليمن، وستمتدّ خدماته "على كل مساحة الوطن، وسيستفيد منه كل مواطن يمني".

هذا التضارب في حديث الوزير ورئيس الحكومة، يعكس عدم توافق الرؤى أو عدم وضوحها لدى أحدهما. لكن عدم وجود آلية واضحة لربط مناطق اليمن كلها بالخدمة الجديدة، وموقف الحوثيين الرافض بشكل قطعي لذلك، سيؤدي إلى وجود سلطات مزدوجة للاتصالات في البلد، وقد يؤدي التعارض بين المؤسستين إلى التأثير على مستوى الخدمة أو منعها عن مناطق يمنية دون أخرى.

وسعى الحوثيون مع سيطرتهم على صنعاء إلى تأسيس شركة اتصالات جديدة، وقدموا مشروعاً للبرلمان للموافقة عليه، مع وعود وإغراءات بتغطية مرتبات الموظفين في صنعاء من رسوم الشركة الجديدة، لكن البرلمان رفض ذلك العرض. وبعد سيطرة الحوثيين بمفردهم على مؤسسة الاتصالات في عموم اليمن، فإنهم لم يعودوا بحاجة إلى إنشاء شركة جديدة.

إلى ذلك، فإن إطلاق شركة اتصالات جديدة دون وضوح كاف لوظيفتها وأهدافها وقدرتها على تقديم خدماتها على صعيد وطني، قد يؤول إلى مصير نقل البنك المركزي، وهو إنشاء المؤسسات الضرورية لتأسيس دولة جديدة في عدن. ولكن كيف لسلطات هادي التي لم تستطع وقف تصرفات الحزام الأمني والمجلس الانتقالي ضدها، ولم تستطع تعيين محافظ جديد لعدن منذ أشهر، أن تتحكم في أي مؤسسة جديدة بهذه الأهمية؟

 

منع دخول النازحين الشماليين إلى عدن

منذ أن سيطرت الإمارات على عدن منتصف 2015، وأنشأت قوات الحزام الأمني فيها، أخذت سياسات الحزام تتجه مباشرة نحو تهجير الشماليين من الجنوب ومن عدن تحديداً، بمبررات وذرائع عدة لم تثبت صحة أي منها، كمكافحة الإرهاب. وأصبح دخول عدن أو السفر عبر المحافظات الجنوبية بعدها، مسألة معقدة للغاية بالنسبة لأي مواطن من المحافظات الشمالية لليمن. لكن القضية لم تعد تظهر في وسائل الإعلام إلا عند حدوث منع جماعي، وهذا المنع الجماعي حدث مرتين. المرة الأولى حدثت في ديسمبر الماضي مع ارتفاع أعداد الهاربين من مناطق سيطرة الحوثيين بعد معارك صنعاء التي انتهت بمقتل صالح. وتم وقتها منع عشرات الأسر من تعز وصنعاء في نقطة مصنع "باوزير" للحديد بلحج، من دخول عدن، مع استثناءات شملت قيادات وإعلاميين مؤتمريين، ولاحقاً عسكريين تابعين لطارق صالح، نجل شقيق الرئيس اليمني الراحل.

يومها أصدر بن دغر توجيهات بتسهيل دخول النازحين من صنعاء إلى عدن، لكن سلطته كانت على المحك، فبعدها مباشرة تمّ التصعيد ضد حكومته وصولاً إلى أحداث يناير/كانون الثاني المعروفة، التي انتهت بوساطة سعودية بين المجلس الانتقالي الجنوبي وقوات هادي، وباتفاقات غامضة التفاصيل حتى اليوم. 

وأواخر يونيو/حزيران ومطلع يوليو/تموز الحالي، تكرّر الأمر مع النازحين من محافظة الحديدة الذين تتراوح أعدادهم بحسب تقديرات منظمات دولية، بين 80 و120 ألف نازح غادروا المدينة. واتجهت عشرات الأسر من هؤلاء النازحين نحو عدن، لكن نقاط الحزام الأمني الموالي للإمارات منعتهم من دخول العاصمة المؤقتة وتركت عشرات النساء والأطفال على جانبي الطريق في ظروف مناخية بالغة القسوة.

موقف الحكومة الشرعية في عدن

المنع المهين لهؤلاء النازحين من دخول عدن دفع شاباً جنوبياً يعيش في صنعاء إلى نشر تغريدة على موقع "تويتر" قال فيها "أنا لؤي خالد، يمني جنوبي، وأعيش في صنعاء وأمتلك قطعة أرض صغيرة بالقرب من منطقة الشعب وأوراقها عند أمي في المنصورة، على أي منظمة التواصل معي، لعملها مساكن للنازحين من أبناء الحديدة أو لأي نازح من اليمن".

أمّا بن دغر، فنشر تغريدات على "تويتر" أيضاً، لكنها ليست بنفس قيمة تغريدة لؤي خالد. قال بن دغر إنه "ليس من القانون في شيء منع الأسر من المحافظات الشمالية من دخول عدن، وليس هذا في أعرافنا وتقاليدنا وأخلاقنا، وتعريض الأطفال والنساء والشيوخ للأذى عمل محرّم. على الجميع القيام بواجبه، كل من موقع مسؤوليته، وعلى النقاط الأمنية أينما وجدت الانصياع للقانون. أفسحوا طريقهم وسهلوا واحموا دخولهم للعاصمة المؤقتة عدن، عاصمة اليمن".

بعد هذا المنع وهذا الاعتراض لبن دغر، تصاعدت الأزمة في مدينة عدن من جديد ضد حكومته، فقد هدد رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي،  عيدروس الزبيدي، حكومة الشرعية هذه المرة بطريقة جديدة، تضمّنت إشارات إلى هزيمتها هي والقوات التابعة لها في معركة يناير الماضي، وأنه من مصدر قوة يمكنه إعادة الفعل نفسه.

وتزامن هذا المنع مع وجود هادي وبن دغر وأغلب قيادات الحكومة في عدن، من دون قدرة أي منهم على إجبار نقطة أمنية على تنفيذ القانون، ما يعدّ رسالة بالغة الدلالة، إذ إنّ السلطة الفعلية ليست بيد أي منهم، بل بيد قوات المجلس الانتقالي والحزام الأمني الموالين لأبوظبي.

ويمكن اختصار هذه المؤشرات بأن هادي وحكومته يصدرون قرارات تخدم السلطة الفعلية على الأرض وحدها، وهذه السلطة ليست بأيديهم، بل إنها سلطة تدعو "للاستقلال" في خطابها العلني، بينما لم يعد هناك أي مسؤول شمالي في الجنوب اليوم، والرئيس ورئيس الحكومة وأغلب الوزراء من الجنوب.

لا أحد يعلم ما إذا كان الانفصال الذي ينشده الزبيدي وحلفاء الإمارات للجنوب، سيكون عن الشمال أم عن هادي وحكومته اللذين يجهزان البنية التحتية لإعلان دولة الزبيدي اليوم أو غداً، وما سيكون عليه مصير الشمال بعدها بعد أن أصبحت كل جبهات القتال تدور في جغرافيته وحدها.

المساهمون