الهدنة المؤجلة في إدلب: شكوك كثيرة في طريق التطبيق

11 يناير 2020
تواصل النزوح في إدلب هرباً من القصف (إسراء هاسوغلو/الأناضول)
+ الخط -
تبدو محافظة إدلب السورية أمام مفترق طرق جديد، قد يمهد لتثبيت وقف لإطلاق النار فيها، أو يعيد الأمور إلى خانة العنف واستمرار الكارثة الإنسانية التي أدت إلى نزوح أكثر من 300 ألف مدني، وذلك في ظل الإعلان عن اتفاق روسي تركي جديد لوقف إطلاق النار اعتباراً من ليل السبت ــ الأحد. وسيكون هذا الاتفاق أمام اختبار كبير في ظل سقوط العديد من الهدن المعلنة سابقاً، لا سيما أن القصف الصاروخي والمدفعي وحتى الجوي على مناطق وقرى وخطوط المواجهات في الريفين الجنوبي والشرقي من المحافظة، استمر أمس، الجمعة، قبيل الإعلان الرسمي عن الهدنة التي يبدو أنها تأتي كإحدى نتائج لقاء الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، في إسطنبول، يوم الأربعاء الماضي. والاتفاق الذي انتُظر طويلاً، ولا سيما من قبل أكثر من 300 ألف نازح اضطروا لترك مدنهم وقراهم في جنوبي وشرق إدلب، والفرار نحو الشمال، وتحديداً إلى الحدود السورية – التركية، جاء بعد الحملة الأخيرة لقوات النظام التي تساندها مليشيات محسوبة على إيران مع إسناد جوي روسي بهدف السيطرة على مدينة معرة النعمان بريف إدلب الجنوبي، ومن ثمّ الامتداد نحو مدينة سراقب في الريف الأوسط من المحافظة. علماً أنّ الأولى تقع على الطريق الدولي حلب – دمشق المشار إليها بـ"أم 5"، أما الثانية فتشكل عقدة تقاطع بين الطريقين "أم 5" و"أم 4". والأخير يعتبر الطريق الدولي الأبرز في شمالي سورية، والذي يبدأ من الحسكة مروراً بحلب وانتهاءً باللاذقية، إذ يروج النظام دائماً عبر وسائل إعلامه، لضرورة السيطرة على المدينتين بهدف فرض السيطرة على الطريقين الدوليين المارين بهما.

وأعلنت وزارة الدفاع التركية على حسابها الرسمي في "تويتر"، عصر أمس، اتفاق أنقرة وموسكو على وقف لإطلاق النار في منطقة خفض التصعيد في إدلب اعتباراً من منتصف ليل السبت - الأحد، وذلك لوقف الهجمات الجوية والبرية ومنع موجات اللاجئين الجديدة والمساهمة في ضمان عودة الحياة إلى طبيعتها داخل منطقة خفض التصعيد في إدلب.

وسبق ذلك استهداف مدفعية النظام، أمس، كلاً من مدينة معرة النعمان وقرى معرشمارين، حنتوتين، بابيلا، دير الشرقي، دير الغربي، معرشورين، تلمنس، معرشمشة، بالإضافة إلى الأوتوستراد الدولي حلب – دمشق المار من معرة النعمان. وكان الطيران الحربي التابع لقوات النظام قد استهدف، صباح أمس، قرية معرشورين وشمال مدينة معرة النعمان بالصواريخ الفراغية.

وكانت الاشتباكات على محاور القتال في جنوب وشرق إدلب، قد توقفت يوم الخميس، وحصل "العربي الجديد" على تسجيل صوتي مصدره إحدى غرف العمليات التابعة لقوات النظام في جنوب المحافظة، بمثابة تعميمٍ على مقاتلي هذه القوات والمليشيات المساندة لها بضرورة إخفاء العتاد والسلاح من قبل المقاتلين على الجبهات. وكان ذلك قرابة الساعة الثانية من بعد ظهر الخميس، قبل الحديث عن هدنة الخميس، إلا أنّ الاشتباكات بين قوات النظام وفصائل المعارضة عادت، صباح أمس الجمعة، على محاور قرى جرجناز ودير الشرقي.

وقبيل الإعلان رسمياً عن الهدنة من الجانب التركي، عصر أمس، كان المتحدث باسم "الجبهة الوطنية للتحرير"، النقيب ناجي المصطفى، قد رفض في اتصال مع "العربي الجديد"، التعليق على التزام الفصائل بتطبيق اتفاق الهدنة، معللاً ذلك بعدم امتلاكه لأي تفاصيل. وكانت مصادر داخل فصائل المعارضة قد قالت لـ"العربي الجديد"، إن هناك جولة أو جولتين من المفاوضات في أنقرة من المفترض أن تنتهي مساء أمس، الجمعة، قبل الإعلان عن الاتفاق، وهو ما يبدو أنه تم. وأضافت المصادر أنّ الروس كانوا قد رفعوا سقف المطالب للالتزام بوقف إطلاق النار في إدلب خلال المباحثات الأخيرة، سواء في موسكو خلال زيارة وفد تركي إلى العاصمة الروسية لبحث ملف إدلب وملفات أخرى، أو تلك المباحثات التي جرت في أنقرة حول إدلب، تحديداً بعد لقاء الرئيسين الروسي والتركي، يوم الأربعاء، لتثبيت شروط وقف إطلاق النار. وأشارت المصادر كذلك إلى أنّ الروس أضافوا شروطاً جديدة إلى الشروط القديمة التي كانوا يضعونها لتحقيق التزامهم بوقف إطلاق النار.

وأمس، أفادت وسائل إعلام تركية بأنّ وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو ووزير الدفاع خلوصي أكار يعتزمان زيارة موسكو، الاثنين المقبل، لمناقشة الملفات العالقة بين البلدين في سورية وليبيا. وأضافت هذه الوسائل أنّ رئيس جهاز الاستخبارات التركي هاكان فيدان سيكون ضمن الوفد الرفيع. وفي وقت سابق، أمس أيضاً، التقى أكار مع المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية جيمس جيفري، في العاصمة أنقرة، حيث كان يرافقه السفير ديفيد ساترفيلد، من دون ورود تفاصيل عن مضمون اللقاءات.

وتشير المعلومات من أروقة المفاوضات بين أنقرة وموسكو، إلى أنّ الروس يصرون على تطبيق كامل بنود اتفاق سوتشي الموقع بين بوتين وأردوغان في سبتمبر/ أيلول 2018، وفي مقدمتها حلّ "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً)، بالإضافة إلى حلّ "حكومة الإنقاذ" التي تعمل تحت إشرافها في بعض مناطق إدلب، ورسم حدود المنطقة منزوعة السلاح بعمق 15 إلى 20 كيلومتراً حول المحافظة ومحيطها، والتي تضمّ كامل إدلب وأجزاء من أرياف حلب الغربي، وحماة الشمالي، واللاذقية الشرقي، وسحب السلاح الثقيل منها، بالإضافة لإدخال بعض مؤسسات النظام، من بينها الشرطة المدنية، إلى القرى والمدن في إدلب.

وفي ما يخصّ المنطقة منزوعة السلاح حول إدلب، فإنّ الروس والنظام والمليشيات المساندة له، قد تجاوزوا حدودها في بعض المناطق وقضموا أجزاء كبيرة منها ومن المنطقة التي من المفترض أن تكون تحت سيطرة الفصائل، وذلك خلال المعارك التي بدأت منذ إبريل/ نيسان 2019 واستمرت حتى منتصف أغسطس/ آب من العام ذاته، وسيطرت من خلالها قوات النظام على الكثير من المدن والبلدات، أهمها قلعة المضيق وكفرنبودة بالريف الشمالي من حماة، وخان شيخون في أقصى الريف الجنوبي من إدلب. أمّا في ما يتعلّق بإدخال مؤسسات النظام إلى إدلب، فإنّ الجانب التركي يرفض بشكل قاطع إدخال الشرطة المدنية خوفاً من تمرير عناصر الأمن والمخابرات من خلالها، علماً أنّ بعض أجهزة الأمن والمخابرات تتبع بشكل أو بآخر لوزارة الداخلية في حكومة النظام، إلى جانب جهاز الشرطة المدنية. ويصرّ الأتراك في هذه النقطة على تمكين الحكومة السورية المؤقتة التابعة للمعارضة من إدارة المناطق المحررة في حال تمّ الاتفاق، من دون السماح لأي من أجهزة النظام العسكرية أو الأمنية بالدخول إليها.

وبناء على هذه التطورات، تبدو إدلب أمام ثلاثة سيناريوهات. ويتمثل السيناريو الأول بالتزام الأتراك بحلّ "هيئة تحرير الشام" وإيجاد آلية مع الروس لتسيير دوريات مشتركة بين الجيش التركي والشرطة العسكرية الروسية على الطريقين الدوليين "أم 5" و"أم 4"، مع تمكين الحكومة السورية المؤقتة في المناطق المحررة من استلام إدارتها.

أمّا السيناريو الثاني، فيتلخّص باستمرار الروس بالتعنّت بشأن إدخال الشرطة المدنية التابعة للنظام مع دخول مؤسسات الأخير المدنية الأخرى إلى عدد من المدن الرئيسية، ولا سيما معرة النعمان، وأريحا، وسراقب، وجسر الشغور، إلى جانب السيطرة على الطريقين الدوليين بشكل أو بآخر. وهذا السيناريو من الصعب تطبيقه فعلياً على أرض الواقع، كون الأهالي في إدلب يربطون دخول الشرطة المدنية إلى مدنهم وقراهم بدخول عناصر الأمن والمليشيات تدريجياً، وبالتالي استحالة عودتهم إليها.

وبالنسبة للسيناريو الثالث، فربما يكون مزيجاً من السيناريوهين السابقين، كأن يسمح الأتراك بنشر المؤسسات المدنية والإدارية للنظام من دون السماح بدخول الشرطة المدنية، مع تسيير دوريات مشتركة على الطريق الدولي من قبل الروس والأتراك، والالتزام التركي أولاً وآخراً بحل "هيئة تحرير الشام".

ويأتي إعلان اتفاق الهدنة مع تطورات سياسية وعسكرية في المنطقة، ولا سيما المواجهة الإيرانية - الأميركية على أرض العراق، والتي يشير محللون إلى أنها سترخي بظلالها على المشهد السوري، ولا سيما لناحية الوجود الإيراني في سورية من خلال المليشيات التي تدعمها طهران إلى جانب النظام، وإلى أنّ الولايات المتحدة اتخذت قرارها بإنهاء هذا الوجود في العراق وسورية، وهو ما سيؤثر على سير المعارك التي يخوضها النظام بعد فقدانه للعنصر البشري، الذي يعانيه أساساً جراء الانشقاقات.

وعن ذلك، قال القيادي في المعارضة السورية العسكرية، العميد فاتح حسون، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ "روسيا لم تلتزم يوماً باتفاقياتها ولا معاهداتها في الملف السوري"، مضيفاً أنّ "هذه الهدنة ليست كرم أخلاق من روسيا أو التزاماً بتعهداتها، بل تعكس تخوفاً من موقف أميركا وردود الفعل بعد طلب انسحاب قواتها من العراق، إذ من المتوقع أن تعمل واشنطن بشكل جدي على إخراج القوات الإيرانية المحتلة ومليشياتها من سورية". وتابع "بالتالي، فإنّ مشاركة المليشيات الإيرانية في التصعيد ضمن منطقة إدلب قد تجعل قوات التحالف التي تقودها واشنطن تقوم بتوجيه ضربات لهذه المليشيات، وهو ما قد يؤثر على المعتدين ويجعلهم يخسرون مناطق". ورأى أنه "من مكر روسيا أن تلتزم بالتهدئة لحين تبيّن الموقف الأميركي بشكل أوضح، فضلاً عن محاباة تركيا التي باتت بحاجة إليها في ملف ليبيا".

أمّا المحلل السياسي التركي سمير صالحة، فتوقع ألا تستمر هذه الهدنة طويلاً، "لسبب رئيسي هو أنّ الطرق الدولية لا تزال عقدة رئيسية أمام الحوار بين أنقرة وموسكو، ولا أظن أنّ الأخيرة ستتراجع عن مطلب السيطرة على هذه الطرق. ومن جهة ثانية، هناك عقدة أخرى مهمة وقديمة لا تزال قائمة وهي هيئة تحرير الشام، وهذه الإشكالية لم تحسم إلى الآن، ومن دون حسم هذه المسائل لا أظنّ أنه ستكون هناك هدنة حقيقية ووقف لإطلاق النار في إدلب".

وأضاف صالحة في حديث مع "العربي الجديد"، أن "هناك الآن ملفات إقليمية جديدة دخلت على الخط بين روسيا وتركيا، وربما تكون لها انعكاساتها على المشهد السوري، ومن بينها الملف الليبي. فإذا كانت هناك تفاهمات تركية روسية في ليبيا، فقد يكون ذلك عاملاً مساعداً على دفع المفاوضات حول إدلب والملف السوري أكثر من ذي قبل. هذا بالإضافة للاتفاقات التركية الروسية حول الطاقة التي قد تنعكس نتائجها إيجابياً على الملف السوري". وأشار كذلك إلى "أنّ هناك لاعبين إقليميين ودوليين يحاولون الوقوف للحيلولة دون انسجام أكبر بين روسيا وتركيا في المواقف تجاه ملفات متعددة، وهذا بالتأكيد له تأثيره".

وحول ما إذا كانت أنقرة تملك أوراقاً للضغط على روسيا للدفع باتجاه تثبيت اتفاق الهدنة وضمان ديمومته، رأى صالحة أنّ "تركيا لا تملك أوراق تأثير كثيرة على روسيا في ملف إدلب، لأنّ موسكو لها مطالب، وفي مقدمتها حل هيئة تحرير الشام، والالتزام بتطبيق اتفاق سوتشي، وبرأيي الرهان اليوم على روسيا هو بإمكانية الضغط على النظام لفرض تنفيذ الهدنة عليه".

المساهمون