الموقف الغربي من العملية التركية: تناقض أميركي وتشتت أوروبي

11 أكتوبر 2019
يتخوف غوتيريس من إجبار اللاجئين على العودة القسرية(فرانس برس)
+ الخط -

بعد مرور ثلاثة أيام على انطلاق العملية العسكرية التركية بشرق الفرات في شمال سورية، بدا الموقف الدولي، لا سيما بعد عقد جلسة مجلس الأمن الطارئة مساء أول من أمس الخميس، مشتتاً وضبابياً، خصوصاً في واشنطن التي جاءت منها رسائل متناقضة. فالرئيس الأميركي دونالد ترامب، وهو قائد القوات المسلحة، يغرد في اتجاه، بينما وزارة الخارجية في اتجاه آخر. بل إنّ الرئيس نفسه سرعان ما يناقض تصريحات سابقة له ليعود ويعدل في اليوم نفسه عما قاله قبلها بساعات. وكان ترامب قد فاجأ إدارته والمجتمع الدولي وحلفاءه الأكراد، بالإعلان في السادس من شهر أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، بعد محادثة هاتفية مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان، الانسحاب من شمال سورية وترك حلفائه الأكراد بلا حماية. خطوة فُسرت على أنها تعطي الضوء الأخضر للأتراك للقيام بعملياتهم العسكرية في الشمال السوري، ولكن سرعان ما حاولت وزارة الخارجية الأميركية ومسؤولون في البيت الأبيض استدراك الأمر والتأكيد مراراً وتكراراً على أنّ ترامب لم يعط الضوء الأخضر للعملية.

غير أنّ تصريحات الرئيس حول المحادثة مع أردوغان تشي بعكس تصريحات المسؤولين الأميركيين، إذ أكد ترامب أنه لم يعارض ولم يوافق وبقي صامتاً، ما يعني أنه لم يرفض. وحذر مسؤول أميركي رفيع المستوى، بحسب وسائل إعلام أميركية، الطرف التركي من عواقب وخيمة إذا لم يلتزم بخطوط حمراء، أبرزها عدم ارتكاب جرائم تطهير عرقي أو استهداف المدنيين والمناطق المدنية بشكل عشوائي، مشدداً في الوقت ذاته على أنّ العملية العسكرية في بدايتها وأنه لا توجد أي بادرة أو دليل على ارتكاب تركيا شيئاً من هذا القبيل.

أما السفيرة الأميركية في الأمم المتحدة، كيلي كرافت، فخرجت على الصحافيين المنتظرين أمام مجلس الأمن الدولي في نيويورك، الخميس، بعد جلسة المجلس المغلقة والطارئة حول سورية، لتقرأ بياناً مكتوباً من دون أن تجيب عن أي أسئلة. فالسفيرة الأميركية الجديدة لم تعقد أي مؤتمرات صحافية منذ توليها منصبها وقدومها إلى نيويورك، قبل أكثر من شهر، وتعبر أروقة الأمم المتحدة في الطريق إلى قاعة مجلس الأمن محاطة بفريقها وتتحاشى التعامل مع الصحافيين أو الإدلاء بأي تصريحات غير مكتوبة مسبقاً وغالباً ما تكون قصيرة. وحذرت السفيرة في بيانها تركيا من عواقب عملياتها العسكرية إن لم تتمكن من حماية المدنيين والتأكد من عدم عودة تنظيم "داعش" واستعادته نفوذه في المنطقة. ثم شددت على أنّ الرئيس الأميركي لم يعطِ الضوء الأخضر للعملية التركية، وطالبت بحماية الأكراد والأقليات.


وفي اليوم نفسه، أطلق ترامب تصريحات غريبة، حين قال إنّ الأكراد لم يساعدوا الولايات المتحدة في حربها ضدّ النازية خلال الحرب العالمية الثانية. ثمّ صرح بأن الأكراد يقاتلون بعضهم منذ أكثر من مائتي عام. لكنه عاد ليتحدث عن وساطة أميركية بين الأكراد والأتراك. ثم أشار إلى ثلاثة خيارات أمام بلاده لمجابهة "التوغّل العسكري التركي في سورية"، وهي: إرسال آلاف الجنود الأميركيين وتحقيق انتصار، أو ضرب تركيا اقتصادياً وبشكل قوي عن طريق العقوبات، أو التوسط من أجل التوصل لاتفاق بين الأكراد وأنقرة. الحل الأول، أي العسكري، مستبعد لأن الرئيس الأميركي لا يتوقف عن التصريح برغبته في إعادة جنوده إلى الولايات المتحدة، أما الثاني، أي العقوبات الاقتصادية الشديدة، فربطتها الإدارة الأميركية بقطع الخطوط الحمراء، مؤكدة في الوقت ذاته أنّ تركيا حتى اللحظة، لم تقطعها.

وفي سياق متصل، اتفق وللمرة الأولى تحت إدارة ترامب، أعضاء بارزون في الحزب الجمهوري والديمقراطي عندما اعترضوا على الخطوة الأميركية التي تترك الأكراد لمجابهة القوات التركية من دون حماية. وكانت هذه من المرات القليلة، إن لم تكن الوحيدة، التي يخرج فيها صقور في الحزب الجمهوري معلنين اعتراضهم على قرار ترامب. ومن أبرز هؤلاء، السيناتور ليندسي غراهام، الذي أطلق مشروع قرار يحدد إطار عقوبات ضد تركيا تتلخص بثماني نقاط، أهمها: فرض عقوبات على شخصيات بارزة كأردوغان ونائبه فؤاد أقطاي وكل من وزيري الخارجية مولود جاووش أوغلو والدفاع خلوصي أكار وغيرهم. كذلك فرض عقوبات على التجارة العسكرية وأخرى تستهدف قطاع الطاقة وحظر المساعدات العسكرية. ومن غير المرجح أن يتمكن هؤلاء من تمريرها، على الأقل في الوقت الحالي.

ويرى بعض المحللين أنّ خطوة ترامب ترك الأكراد لمصيرهم جاءت كرسالة للناخب الأميركي في قاعدته، إذ من خلالها يمكنه أن يدعي أنه نفّذ وعوده بتقليص الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط، حتى وإن كان هذا الادعاء غير دقيق. لكن العملية التركية وموقف ترامب ومفاجأة أعضاء في حكومته، عرّت عمق الشرخ وبُعد الرئيس الأميركي عن بقية المختصين العسكريين وحتى السياسيين في إدارته. ويشير محللون إلى أنّ الإدارة الأميركية كذلك تبحث عن مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، وبعدما استخدمت الورقة الكردية، ترجح الآن كفة التحالف مع تركيا لما يقدمه ذلك من مصالح لها في المنطقة.

دولياً، قد يبدو المشهد للوهلة الأولى أكثر وضوحاً، لكنه في الواقع مشتت وضبابي. فحتى الدول الأوروبية الأعضاء في مجلس الأمن، كفرنسا وبريطانيا وبولندا وألمانيا وبلجيكا، التي أصدرت بياناً بعد اجتماع مجلس الأمن الطارئ ليل الخميس - الجمعة الذي دعت لعقده، اكتفت بالتعبير عن قلقها، ولم تشجب بأشد العبارات العملية التركية.

على الصعيد الوطني، شجبت كل من باريس وبرلين العملية التركية، في حين فضّلت لندن الحديث عن قلق شديد، مؤكدةً في الوقت ذاته الدور الذي تقوم به تركيا في استضافة أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ سوري. ولم تتمكن الدول الأعضاء في مجلس الأمن من الاتفاق على صيغة بيان صحافي أو عناصر بيان لإصداره عن المجلس يعرب عن قلقه من العملية، إذ اتحدت كل من الولايات المتحدة وروسيا حول معارضة ذلك وكل منهما لأسبابها. فروسيا تريد أن يشمل أي بيان يصدر باسم المجلس عبارة "احتلال غير قانوني". أما الجانب الأميركي، فتحدث عن رغبته بأن يشير البيان إلى تفهم المجلس للقلق التركي، وأن يقوم بحثه على حلّ القضية عن طريق القنوات الدبلوماسية وليس العسكرية. أما أردوغان، فهدد الاتحاد الأوروبي بـ"بعبع" اللاجئين السوريين ووصولهم إلى أوروبا.

مجلس الأمن الدولي، المسؤول عن الأمن والسلم الدوليين، مشلول وعاجز عن اتخاذ أي خطوة ولو رمزية، فالحقائق تسجل على الأرض وليس في أروقة الأمم المتحدة في نيويورك. لكن المجلس في مأزق أكبر ومعه الأمم المتحدة التي تخشى من العواقب الإنسانية الوخيمة للعملية التركية وموجة نزوح جديدة. بل خوفها الحقيقي من نيّة تركيا نقل مئات الآلاف أو ملايين السوريين إلى شمال سورية بشكل إجباري على عكس ما تدعيه.

تلك التخوفات، وصفها مصدر رفيع المستوى في الأمم المتحدة، لـ"العربي الجديد"، في نيويورك بالجدية. وأضاف "ليست مصادفة أنّ تصريحات الأمين العام أنطونيو غوتيريس تركز على ثلاث نقاط: وحدة الأراضي السورية، مراعاة ميثاق الأمم المتحدة والقانون الإنساني الدولي خلال العملية العسكرية، وعدم إجبار اللاجئين والنازحين على العودة القصرية، من دون التطرق بأي شكل من الأشكال لقانونية العملية العسكرية أو عدمها".

وتحاول تركيا تعليل عمليتها العسكرية في سورية بثلاث نقاط أساسية؛ أولها الدفاع عن النفس، وثانياً مكافحة الإرهاب، وثالثاً اتفاقية أضنة المبرمة مع الحكومة السورية عام 1998، والتي تسمح لتركيا بالتوغل داخل سورية بعمق 5 كيلومترات في حال وجود تهديد أمني. وفي الأمم المتحدة ومجلس الأمن التابع لها، لا نقاش واسعاً لمدى قانونية العملية العسكرية التركية، فالقوات الأجنبية على الأراضي السورية كثيرة والأغلبية صامتة كي لا تفتح باباً عليها أو على حلفائها.