كان لدى السفير السعودي خالد بن سلمان، الذي غادر يوم الخميس الماضي إلى الرياض، مهلةٌ حتى نهاية الأسبوع الحالي، للعودة إلى واشنطن بجواب شافٍ في قضية اختفاء الصحافي جمال خاشقجي.
مرّت المهلة من غير عودة ولا جواب، فكان اتصال الرئيس الأميركي دونالد ترامب الإثنين مع الملك سلمان للغرض ذاته. ومع أن ترامب بدا وكأنه أخذ بنفي العاهل السعودي "القوي" لضلوع السلطات السعودية في هذه القضية، إلا انه أعلن عن تكليف وزير الخارجية مايك بومبيو بالتوجه فوراً إلى الرياض، مع التلميح بأن تصفية المغدور به قد تكون جرت على أيدي "قتلة مارقين". الرسالة واضحة: حان وقت اعتراف المملكة بمقتل خاشقجي في القنصلية، على أن يجري حبك قصة مقتله بصورةٍ يُصار من خلالها إلى تحميل مسؤولية العملية لمنفذ غير منضبط، يكون كبش الفداء.
ولم تكن صدفة أن يتسرب خبر "مناقشة القيادة السعودية" لمثل هذا المخرج، قبل ساعات من وصول بومبيو إلى الرياض، وكأن إدارة ترامب وضعت المملكة مسبقاً في جو زيارة الوزير، التي تقررت قبل ساعات من مغادرته، فالبيت الأبيض بدأ يشعر بالضيق من طغيان سيرة خاشقجي التي كسحت الساحتين السياسية والإعلامية على مدى الأسبوعين الماضيين، وبما حجب إلى حد بعيد مكاسب الرئيس والجمهوريين في الآونة الأخيرة (مثل تعيين القاضي بريت كافانو في المحكمة العليا)، عشية انتخابات مفصلية باتت على مسافة ثلاثة أسابيع.
ومع هذا التركيز، فُتح دفتر علاقات جاريد كوشنير صهر ترامب، مع ولي العهد السعودي، وسط كلام عن أن هذا الأخير "استقوى" بالبيت الأبيض في العديد من الخطوات والممارسات "المتهورة" التي اعتمدها.
أضف إلى ذلك، أن تعامل الرئيس الأميركي الضبابي مع فاجعة مقتل خاشقجي، بدأ يتحول إلى عبء. بدا وكأنه مقيّد الحركة، أو يحاول حجب الشمس بأصابع اليد. الجميع يتحدث عن جريمة - فضيحة في ما هو بقي وحده في دائرة اللون الرمادي، ينتظر "انكشاف حقيقة ما جرى". تفظيع بهذ الشكل لا يحتمل تدوير الزوايا. يهز الصدقية المهتزة أصلاً، في لحظة سياسية حساسة. لكل ذلك، كان لا بد للبيت الأبيض من مواجهة الحقيقة، ولو بصيغة ملتوية، ومحاولة حمل الرياض على الاعتراف.
لكن مخرج "القاتل المارق" الذي وصفه السيناتور الديمقراطي كريس مورفي بـ"المضحك"، يقول المراقبون إنه يطرح من الأسئلة أكثر مما يكشف من المخفي منها، فالتراجع والإقرار لا يعفي من المطالبة بمعرفة "من أعطى الأوامر لفريق النحر؟"، وما هو الثمن المطلوب تدفيعه للآمر؟ هل يجري تحقيق لكشف كافة ملابسات هذه القضية التي هزّت عالم الدبلوماسية؟ كثيرة الأبواب التي سيفتحها "المارق" إذا تمكنت إدارة ترامب من انتزاع الاعتراف به من القيادة السعودية. وهي تبدو عازمة على ذلك، بصرف النظر عن التداعيات التي قد تكون مطلوبة.
كثير من الأوهام الأميركية عن التوجه السعودي الجديد، تهاوى. انعكست بدايات ذلك في مقاطعة شركات أميركية هامة لمؤتمر الاستثمار المزمع عقده في المملكة بعد أيام . يرافق ذلك إجماعٌ نادر هذه الأيام بين الجمهوريين والديمقراطيين في الكونغرس، على اتخاذ خطوات عقابية ضد الرياض، بعد جلاء الصورة وثبوت المسؤولية. قد يقوى ترامب، خاصة إذا فاز فريقه في الانتخابات، على تخفيف ردّ فعل الكونغرس وجعله رمزياً، لكنه لن يقوى على تصحيح صورة المملكة في الولايات المتحدة، وإلى أمدٍ بعيد.
هذه التصفية الدموية البشعة غيرت النظرة ووضعت "الحليف" في قفص المحاكمة، وثمة من لا يستبعد أن تكون لها تداعيات داخلية مفتوحة على المزيد من التصدعات.