أنياس كالامار: لا بد من المحاسبة السياسية في جريمة خاشقجي

23 نوفمبر 2019
تشعر كالامار بالخيبة من التقاعس الأممي (إيزابيل إنفانتيس/فرانس برس)
+ الخط -
أصدرت المقررة الخاصة بحالات الإعدام خارج نطاق القضاء في المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، أنياس كالامار، في يونيو/ حزيران الماضي، تقريرها الخاص عن مقتل الكاتب والصحافي السعودي جمال خاشقجي، داخل قنصلية بلاده في مدينة إسطنبول في الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول 2018. ولقي التقرير، كما جريمة القتل، تغطيةً إعلامية واسعة، وسبّب إحراجاً شديداً للسعودية، وعلى وجه الأخص لولي عهدها محمد بن سلمان. لكن، على عكس كل التعهدات التي قطعت بالمحاسبة والاستمرار بالتحقيق من قبل قادة دوليين، ومن الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، إلا أن لا عواقب قضائية وسياسية حتى الآن للجريمة، كما تقول كالامار. لكن هذا لن يثنيها عن الاستمرار في التحقيق، والبحث عن طرق جديدة، من طريق استغلال منصبها، لتحقيق تقدم في مجالات حقوق الإنسان.

وكانت كالامار قد قدمت نهاية شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي تقريرها السنوي في مدينة نيويورك أمام "اللجنة الثالثة" المعنية بحقوق الإنسان في الجمعية العامة للأمم المتحدة. وخصّت مراسلة "العربي الجديد" في نيويورك بهذه المقابلة.



مرّ أكثر من عام على مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي. أشرتِ في تقريرك عن الموضوع إلى أن جريمة قتله عبارة عن "جريمة دولة"، وذكرت أنه "ما دامت الدولة مسؤولة، فإن هناك مسؤولاً عن الجريمة. وفي دولة كالسعودية، حيث الحكم مركزي، لا بد أن يكون صاحب القرار في أعلى درجات السلطة". من كان صاحب القرار؟

ما نعرفه، أن هناك عملية خاصة خُطّط لها مسبقاً، وزُوِّدَت بكل التسهيلات اللازمة، وشملت جريمة قتل، خُطط لها قبل 24 ساعة على الأقل، أو قبل فترة زمنية. ما لا شك فيه، أن القتل جاء كجزءٍ من المخطط. وكما أشرت، فإن مسؤولين كباراً اشتركوا في عملية التخطيط. نعلم كذلك أن 17 سعودياً وصلوا على متن طائرة خاصة للتحقق من الجريمة والتخلص من آثارها. هذا يعني أن ما حدث لم يكن أمراً عابراً قام به فردٌ أو أكثر، وقرر أو قرروا في تلك اللحظة العابرة قتل خاشقجي. هذا يعني أننا نتحدث عن "جريمة دولة". ولكن ما الذي نعنيه عند الحديث عن "دولة"؟ إلى أيّ مستوى في صنع القرار تصل المسؤولية؟ نعلم أن اتخاذ القرار في دولةٍ كالسعودية، مركزي. وهذا يعني أن عدداً كبيراً من المسؤولين على مستوى رفيع لهم علاقة بالجريمة. لا يمكنني التحديد، بحسب المعطيات والأدلة التي أملكها، ما إذا كان ولي العهد محمد بن سلمان هو من أمر بالقتل، لكن الكثير من المعلومات التي لدينا تشير إلى مسؤوليته بطريقةٍ أو أخرى. وعند الحديث عن مسؤولية في هذا السياق، فإن هذا يشمل عدداً من السيناريوهات، من بينها إصدار الأوامر أو التحريض أو عدم التدخل، على الرغم من معرفة بما يحدث، أو غضّ النظر. لا يمكنني أن أحدّد أين تقع مسؤوليته بالضبط، لكنه مسؤول عن واحد من تلك السيناريوهات.

إذاً، عندما تتحدثين عن مسؤولين كبار، فقد تأكدت من علاقتهم باتخاذ القرار. مَن أعلى مسؤول تمكنت من التأكد من ضلوعه أو علاقته باتخاذ القرار؟

جزء من الحقائق المهمة هنا، أن 11 شخصاً يواجهون محاكمة في السعودية، وأعلاهم مرتبة أحمد العسيري، وشغل منصب نائب مدير الاستخبارات. وكذلك نعرف أن المدعي العام السعودي في واحد من تصريحاته العلنية ذكر اسم سعود القحطاني، كأحد الأشخاص الذين حرّضوا على الجريمة، وكان قد التقى بالأفراد الـ15 المشاركين أو ببعضهم. طلب منهم، بحسب تصريحات المدعي العام السعودي سعود المعجب، إعادة خاشقجي لأنه يشكل تهديداً للأمن الوطني، وهذه حقائق تأكدنا منها. ونعلم كذلك أن الفريق (الذي اشترك بعميلة القتل) استخدم طائرةً خاصة ثمينة (للقدوم إلى إسطنبول)، وبعضهم يحمل جوازات سفر دبلوماسية. ونعلم أن الطائرة الخاصة عوملت كطائرةٍ دبلوماسية، أي أنها زيارة رسمية بشكل أو بآخر. كذلك، القتل وقع في القنصلية السعودية في إسطنبول، والقنصل كان مشاركاً بصورة أو بأخرى، وعملية القتل حدثت في مكتبه. كل هذا يدل على تدخل على مستوى عال جداً. أضف إلى أننا نعرف أن سعود القحطاني مستشار شخصي لولي العهد. يرد اسمه في أكثر من قضية يمارس بها القمع والتعذيب، من بينها عمليات تعذيب بعض السعوديات المعتقلات، كما في قضية فندق "الريتز" (احتجاز أمراء ورجال أعمال) وحضوره بعض التحقيقات. كذلك فإنه كان أحد شخصين لهما علاقة باحتجاز رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري والتحقيق معه. إذاً، لهذا الرجل علاقة بكل الأنشطة القمعية في البلاد، وهي أنشطة منظمة، وليست نتاج عمله بشكل فردي. هذه الأفعال جزء من أنشطة قمعية، ولا يمكن رؤيتها كأنشطة فردية. ماذا يعني هذا على مستوى أخذ القرارات؟ أنا رصدت لك الحقائق، ولكِ أن تصلي إلى استنتاجاتك.


ماذا عن الأمم المتحدة؟ هل تشعرين بخيبة أمل من عدم الاستمرار في التحقيقات، خصوصاً أن الأمين العام للأمم المتحدة يقول إنه يحتاج إلى تفويض من تركيا لتشكيل لجنة خاصة به للتحقيق. ما رأيك؟

أنا مقتنعة بأن الأطر الموجودة في الأمم المتحدة يمكن تفسيرها بطريقة تسمح لمؤسسات أو أشخاص يعملون في المنظمة بالتدخل. لكن ما لاحظته أن المسؤولين، مجلس الأمن والأمين العام وغيرهم، لم ينتهزوا الفرصة ولم يتصرفوا بشجاعة، فضلاً عن تخوفات مبهمة، وتحت حجج مختلفة، من بينها قضايا بروتوكولية. يمكن تفسير ميثاق الأمم المتحدة بطرق عدة تمكّن المؤسسة من اتخاذ قرارات شجاعة، لكن هذه الخطوات لم تتخذ حتى الآن.

هل تشعرين بخيبة أمل من الأمين العام أنطونيو غوتيريس أو غيره من المسؤولين، لعدم أخذهم بتوصيات تقريرك؟ 

تعتمد مهمتي على أن أقدم توصيات وأطلب من الفاعلين التحرك. هل أتوقع دائماً أن يتحرك هؤلاء، وأن يأخذوا بتوصياتي؟ إذا كنت صريحة معك، فالإجابة هي لا، ليس دائماً. ولكن عليّ أن أطلب، وهذا ما يحتمه منصبي. ومن دون شك، الأمين العام يتعرض لضغوطات كبيرة، تحديداً في هذه الفترة التاريخية التي نمرّ بها والأجواء السياسية. كذلك هناك صعوبات تقنية متعلقة بميثاق الأمم المتحدة. ولكن هناك لحظات يمكن أن تقتنص، وأن يدفع المسؤولون من أجل التوصل إلى شيء، وهذا لم يحدث حتى الآن. وفي هذا السياق أشعر بخيبة أمل. وكأن العمل الذي قمت به يُتّخَذ حجةً أو بديلاً للعمل الذي يجب أن يقوموا هم به. هذا أوصلني إلى قناعة مفادها أن عمل المقرر الخاص، الذي تعيّنه الأمم المتحدة لمدة ست سنوات، لكنه مستقل عنها ولا يمثلها ويقدم لها التقارير، هو أفضل منصب يمكننا من خلاله الدفاع والدفع به من أجل تلك القضايا وحقوق الإنسان. صحيح أن لدي خيبة أمل، لكنني سعيدة بأن الوضع الحالي خلق عندي وعياً ذاتياً بضرورة تقوية عمل المقررين الخاصين، بحيث نتمكن من التحرك بنحو فعال ومستقل، ونحرك أموراً مختلفة.

كيف يمكن إذاً أن يكون لعملك أو عمل أيّ مقرر خاص آخر فعالية أكبر؟ وفي ما يخص خاشقجي، هل انتهى دورك بتقديم التقرير قبل أشهر، أم أن لديك خطوات إضافية؟

أنا أدرس عدداً من الأمور، من بينها تطوير غرفة عمليات مع أكثر من مقرر خاص لكي نعمل معاً لتدخل سريع. وأعتقد أن بعض الحالات التي يجري الحديث عنها معقدة، ولكن ربما هناك بعض الحالات التي يمكننا فيها التأثير مبكراً. في ما يخص الخطوات المقبلة المتعلقة بخاشقجي ودوري في التحقيق، فإنني أتابع بعض الخيوط، ولا يمكنني الخوض بتفاصيلها، وسأستمر بمتابعة القضية. لكنني أدعو إلى أمر إضافي، هو المحاسبة السياسية. على سبيل المثال، مطالبتي من القادة باتخاذ مواقف واضحة من عقد قمة العشرين في الرياض. وسأستمر بذلك، وسأبقى مصدر إزعاج للكثيرين الذين لا يريدون أن نمضي قدماً، كما قيل لي أن أفعل. لن أتوقف وسأستمر بأن أكون شخصاً مزعجاً، ولن أخاف، لأن الصمت قاتل.

في ما يخصّ المقاتلين الأجانب في تنظيم "داعش"، والقادمين من دول كبريطانيا وفرنسا وألمانيا وغيرها، والذين يحاكمون أو حوكموا في العراق، هل تعتقدين أن بلادهم قدمت إليهم المعونة اللازمة؟ وما رأيك بالمحاكمات؟

تقع المسؤولية على الدول التي يتحدر منها مقاتلو تنظيم "داعش" الأجانب بمستويات مختلفة. أولها ضرورة أن تقدم تلك الدول الاستشارة القنصلية لرعاياها، خصوصاً أنهم يواجهون اتهامات تصل عقوبتها إلى الإعدام. وعدم قيامهم بذلك يخالف القانون الدولي. أغلب هؤلاء المحتجزين عُذبوا بحسب تقارير متوافرة لدينا. وهنا كذلك، فإن جزءاً من المسؤولية يقع على دولهم التي يجب أن تحميهم من التعذيب. ثالثاً، في ما يخصّ عدالة المحاكم، لقد كتبت بالتفصيل عن المحاكم في العراق ضد مقاتلي "داعش" في أحد تقاريري قبل قرابة سنة ونصف، وللأسف، لم يطرأ إلا القليل من التقدم. إذاً، لا توجد محاكم عادلة، وأغلب المتهمين - من العراقيين أو الأجانب - يحاكمون بتهمة الانتساب إلى منظمة إرهابية. وفي العادة لن يتمكنوا من الحديث مع محاميهم إلا قبل دقائق من محاكمتهم. هذه المحاكم في غالبها جماعية، وكما ذكرت فإن الاعترافات استُحصِل عليها بالتعذيب في عدد كبير من الحالات.

هناك أمر إضافي من الضروري التركيز عليه، وهو قضية الضحايا ومكانهم في تلك المحاكم. فإضافة إلى كونها غير عادلة ولا تؤدي إلى كشف الحقيقة أو كشف الجرائم، فهي محاكمات لا تتمحور حول الضحايا. وهذه نقطة جوهرية، إذ يُغيَّب الضحايا في أغلب الحالات، مع بعض الاستثناءات. هذا يعني أن لا عدالة لضحايا "داعش". إنهم يحاكمون بتهمة انتسابهم إلى تنظيم إرهابي. ولا يجري اتهامهم بالاغتصاب أو القتل أو العنف الجسدي أو ارتكاب المجازر... إلخ. هذا يعني أن الجرائم التي ارتكبوها تصوّر على أساس أنها جرائم ضد الدولة. إذاً، هناك غياب للضحايا الذين لا نسمع أصواتهم. لم نشهد محاكمة واحدة ضد ما ارتكب بحق الأيزيديين في العراق، على الرغم من وجود عدد كبير من المحاكمات ضد مقاتلي "داعش". هذا بالنسبة إليّ واحد من الخروقات التي تشترك بها الدول الأوروبية كذلك. ليس فقط بترك مواطنيهم للتعذيب ومواجهة محاكمة غير عادلة، بل كذلك في غياب محاكمات تعطي الضحايا صوتهم وحقهم ومكانهم في التاريخ، لكي نتمكن من الاستماع إليهم.

جزء من صلاحياتك في ما يخصّ القتل خارج إطار القانون متعلق بما إذا خلقت حكومة ما الظروف أو تركتها تتدهور لدرجة تؤدي إلى مقتل أو موت أفراد في أماكن تقع تحت سيطرتها. هل ينطبق هذا على الولايات المتحدة والمعتقلات للاجئين والمهاجرين على حدودها مع المكسيك؟

نظرياً، نعم. أي نوع من الموت في أماكن احتجاز هو أمر يدخل تحت سلطتي أو يمكنني التحقيق فيه. لماذا؟ لأن الناس المحتجزين، والأطفال وأماكن احتجازهم، في مناطق وبيئة تحت ظروف تسيطر عليها الدولة، أي يمكن التحكم بظروف اعتقالهم، ونوعية الطعام والشراب الذي يتناولونه وأماكن نومهم. إذاً، يمكن الدولة اتخاذ القرارات والسيطرة على ظروف الاعتقال هذه. لذلك، إن الدولة تتحمل درجة من المسؤولية. السؤال هنا: ما حجم تلك المسؤولية؟ يجب التحقيق في هذا. نظرياً، التحقيق في موتهم من ضمن صلاحياتي، وحتى موتهم بشكل فوري بعد ترك مراكز الاعتقال، خلال أيام أو ساعات، إذا حصلت الوفاة نتيجة لظروف الاعتقال تلك أو يمكن ربطها بها. حاولت العمل على تلك القضايا، لكنني لم أتمكن من ذلك، لأنه يتطلب الحصول على موافقة العائلات أو أشخاص لهم صلة بالموضوع، وطبعاً إن تمكنت من الحصول على المعلومات الكافية. وأحد الأسباب الأساسية لعدم تمكني من ذلك، حتى الآن، أن عائلاتهم أو محاميهم يحاولون الحصول على العدالة بطرقٍ أخرى، وهذا مفهوم طبعاً.

في تقارير سابقة لك تحدثت عن قضية مقتل المهاجرين الأفارقة في ليبيا أو في البحر. هل تعتقدين أن الدول الأوروبية تتحمل جزءاً من المسؤولية لمقتلهم أو سوء معاملتهم؟

كنت قد قلت، في تقارير سابقة، إن السياسات الحالية لدول الاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية، التي بموجبها يُبقى المهاجرون في ليبيا، أو يُدرَّب خفر السواحل الليبي كي لا يقطع المهاجرون البحر المتوسط إلى أوروبا، سياسات تخالف التزامات الاتحاد الأوروبي واحترام الحق في الحياة والدفاع عنها. لدينا معلومات واضحة وكافية عن المعاملة وظروف احتجاز المهاجرين في هذا البلد. إن التعاقد مع خفر السواحل والسلطات الليبية لإبقاء المهاجرين هناك، على الرغم من معرفة الاتحاد الأوروبي ودوله بما يمكن أن يحدث لهم من اعتقال وقتل وتعذيب، هو اشتراك في خروقات حقوق الإنسان. بل إنهم يعتقلون النشطاء الذين يحاولون مساعدة وإنقاذ قوارب المهاجرين وسط البحر، وبذلك يجرّمون هؤلاء الذين يحاولون إنقاذ حياة المهاجرين. إلى أين تسير البشرية؟ أي طريق يسلكه المجتمع عندما يجرّم هؤلاء الذي يحاولون المساعدة. حزين وفظيع ما وصلت إليه مجتمعاتنا.