في الوقت الضائع من ولايته الرئاسية الأولى، يريد الرئيس الأميركي دونالد ترامب طيّ صفحة الحرب الأطول في التاريخ الأميركي والتي كلّفت الخزينة الفدرالية 975 مليار دولار، وأدت إلى مقتل أكثر من 3500 جندي أميركي وأكثر من 100 ألف أفغاني، والنتيجة كأن شيئاً لم يتغير في الأرض "التي تشرق منها الشمس". في أكتوبر/تشرين الأول 2001 أخرج الغزو الأميركي حركة "طالبان" من الحكم في كابول لحرمان تنظيم "القاعدة" من ملاذ آمن في أفغانستان. وبعد حوالي عقدين من الزمن بدأت واشنطن مسار إعادة مفاتيح أفغانستان إلى "طالبان" شرط ألا تمنح الحركة ملاذاً آمناً إلى الإرهابيين لتخطيط عمليات ضد مصالح أميركية. وقبل أن يوقع نائب زعيم "طالبان" للشؤون السياسية الملا عبد الغني برادر على اتفاق السلام، استرق النظر على يمينه ليتأكد أن المبعوث الأميركي زلماي خليل زاد سيوقع قبله، في موقف رمزي يعكس مدى عدم الثقة بين طرفي النزاع وهشاشة هذا الاتفاق التاريخي. المطبات أمام تنفيذ الاتفاق كثيرة، لكن ترامب مصمّم على تسهيل انسحاب قواته من أفغانستان قبل ذهاب الأميركيين إلى صناديق الاقتراع في 3 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
يقضي اتفاق السلام بتقليص مشروط لعدد القوات الأميركية من 12 ألفا و13 ألف جندي إلى 8600، فضلاً عن إغلاق واشنطن قواعدها الرئيسية العسكرية الخمس في أفغانستان في غضون 135 يوماً، مع احتفاظ الجيش الأميركي بقدراته لتنفيذ مهمات ضد تنظيمي "داعش" و"القاعدة"، وتوفير الدعم للقوى الأمنية الأفغانية. وإذا أوفت "طالبان" بتعهداتها ستسحب واشنطن القوات الأميركية الباقية في غضون 14 شهراً. التنازل الأميركي بتنفيذ التعهد في الاتفاق، يأتي في ظل استمرار أعمال العنف مع تسجيل اعتداءات لحركة "طالبان" على حلفاء واشنطن الأفغان، الأمر الذي استدعى هجوماً أميركياً عبر طائرة من دون طيار لحماية القوى الأمنية الأفغانية. كما يأتي التنازل بعد اتصال غير مسبوق بين ترامب وكبير مفاوضي الحركة الملا بردار أخوند، في انعكاس لتفاوض ترامب من موقع ضعف مع "طالبان"، أي من موقع من يريد الانسحاب بأي ثمن.
التحدي الثاني لترامب هو مدى شفافية قرار الانسحاب في الداخل الأميركي، لا سيما أن هناك تساؤلات حول ملاحق اتفاق السلام مع "طالبان" التي تبقى سرية، ولم يسمح البيت الأبيض سوى لعدد قليل من أعضاء الكونغرس الاطّلاع عليها من دون أخذ أي نسخ منها. هذه التساؤلات في الكونغرس تتمحور حول كيف يمكن تقييم تنفيذ "طالبان" التزاماتها، وما إذا كان هناك سلام كافٍ لتسحب أميركا قواتها من أفغانستان، كما أن هناك تحفظات على عدم وجود آلية واضحة للتحقق من امتثال حركة "طالبان". ولم يتم التشاور مع مروحة كبيرة من المسؤولين الأميركيين المعنيين بالملف الأفغاني، قبل توقيع الاتفاق، في ظل إحكام خليل زاد سيطرته على التفاوض بوجود خطوط مفتوحة مباشرة مع ترامب. هذه الملاحق السرية، التي وصفها وزير الخارجية مايك بومبيو بأنها "وثائق التنفيذ العسكري"، تضع بحسب التسريبات جدولاً زمنياً لتنفيذ الاتفاق ونوعية الاعتداءات المحظورة من الطرفين وكيف ستعطي القوات الأميركية أماكن تواجدها لـ"طالبان"، لتفادي أي استهداف لها من الحركة، كما تشكّل لجان تواصل بين الطرفين. في السياق، تساءل النائب الديمقراطي توم مالينوسكي عبر "تويتر"، حول كيفية إعطاء شروط الانسحاب من أفغانستان "إلى مجموعة إرهابية لكن ليس إلى الشعب الأميركي".
من جهته، يحاول الإعلام الأميركي الاستقصاء أكثر حول هذا الموضوع، لأن مصير الانسحاب الأميركي والتزام حركة "طالبان" بالاتفاق، يعتمد على مضمون هذه الملاحق، التي تصرّ إدارة ترامب على تركها سرية لحماية تحرّك الجنود الأميركيين في أفغانستان، لكن يبدو أن البيت الأبيض يثق بحركة "طالبان" لدرجة مشاركتها أماكن انتشار القوات الأميركية. القلق في الداخل الأميركي، هو أن تكون سرية الملاحق حجة لإخفاء بنود في الاتفاق، تضع خريطة طريق غامضة تسمح لترامب بإعلان الانسحاب النهائي من دون ضمان الحد الأدنى من الاستقرار في أفغانستان، لا سيما أن المؤسسة الحاكمة في واشنطن تصرّ على إبقاء عملاء لوكالة الاستخبارات المركزية داخل أفغانستان بعد الانسحاب، لتنسيق عمليات مكافحة الإرهاب. كما وضعت وزارة الدفاع (البنتاغون) خطة لنشر شبكة صغيرة من قوات العمليات الخاصة لتستمر في محاربة "داعش" ولقتال "طالبان" إذا انهار الاتفاق الأميركي معها.
التحدي الثالث هو حال الحكومة الأفغانية المتردي، فإدارة ترامب تخلت عن شرط مسبق ورئيسي، سبق أن منع إدارة الرئيس السابق باراك أوباما من ضمان انسحاب أميركي من أفغانستان، وهو عدم التفاوض المباشر بين واشنطن و"طالبان" لتوقيع اتفاق سلام من دون المرور بالحكومة الأفغانية. أما في مقابل الانسحاب الأميركي، فينصّ اتفاق السلام على إجراء حوار بين الحكومة و"طالبان"، لكن انطلاقته تأجلت بسبب عدم توصل الطرفين إلى صيغة لتبادل الأسرى، لأن كابول ترفض تنفيذ بنود اتفاق السلام الداعي إلى إطلاق سراح 5 آلاف عنصر من الحركة في مقابل ألف عنصر من القوى الأمنية الأفغانية. ليس هناك ضمانات في أن ينجح التفاوض بين كابول و"طالبان" في العاصمة النرويجية أوسلو، حتى لو انطلق في ظل سيطرة "طالبان" على الجزء الأكبر من الأراضي الأفغانية. وكان مسؤول أفغاني كبير ذكر لصحيفة "واشنطن بوست" عن اتفاق السلام: "لقد تم إلقاؤنا تحت الحافلة مقابل صورة فوتوغرافية ومصافحة".
عدا عن ذلك فإن هناك صراعا دائرا يهدد وحدة الحكومة الأفغانية، بعد الخلاف الذي نشب حول نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ما أدى إلى إقامة حفلي تنصيب وأداء اليمين لكل من الرئيس أشرف غني ومنافسه عبدالله عبدالله. هذا يعني أن أمام خليل زاد مهمة صعبة إضافية بين الرجلين، لضمان عدم تشكيل حكومتين قبل تسهيل التفاوض بين كابول و"طالبان"، فلا أحد يستفيد من هذا الانقسام أكثر من الحركة. وتخلل حفل تنصيب غني سقوط صواريخ أطلقها تنظيم "داعش" على القصر الرئاسي الأفغاني.
لم تكن المرة الأولى التي تحاول فيها واشنطن التفاوض مع "طالبان"، أو محاولة الخروج من أفغانستان. فقد سعت إدارة الرئيس الأسبق بيل كلينتون في تسعينات القرن الماضي إلى توقيع اتفاق مع الحركة حول أنابيب الطاقة التي تمر عبر أفغانستان، كما كان هناك محاولات لإجراء مفاوضات عامي 2011 و2012، لكن كل هذه المساعي فشلت، لأن "طالبان" تملك النفس الطويل الذي يستنزف الأميركيين. لا يوجد ضمانات واضحة بأن "طالبان" لن تمسك بالحكم فور الانسحاب الأميركي وتردع كل حلفاء واشنطن في الداخل الأفغاني أو أن تنظيم "داعش" لن يصبح لاعباً رئيسياً في المعادلة الأفغانية. كما أنه ليس هناك ضمانات بأن هذا التسرّع الأميركي للخروج من أفغانستان لحسابات ترامب الانتخابية، لن يؤدي إلى تدهور الأوضاع، لدرجة طلب "البنتاغون" إعادة زيادة مستوى القوات الأميركية. امتحان ترامب في الأشهر المقبلة، هو أن يصبح الرئيس الذي يعلن هزيمة بلاده في أطول حرب في التاريخ الأميركي أم الرئيس الذي يتسبّب في دخول أفغانستان في حرب أهلية قد تستدعي تدخلاً دولياً جديداً لمنع توسعها.