مولر إن حكى: شهادة للتاريخ عن ترامب أمام الكونغرس

24 يوليو 2019
مولر حريص على البقاء خارج الصراع السياسي(مانديل نغان/فرانس برس)
+ الخط -

المحقق روبرت مولر، الذي حبس اسمه الأنفاس في واشنطن خلال التحقيق السري عن تواطؤ محتمل بين حملة الرئيس دونالد ترامب والكرملين، ظل معتصماً بصمته على مدى عامين، ولم يكسر هذه القاعدة سوى مرة واحدة، عندما أعلن، في بيان مقتضب، نهاية مهمته في 29 مايو/أيار الماضي. اليوم، وعلى غير عادة، سيكون مولر تحت المجهر والأضواء في شهادة للتاريخ أمام الكونغرس، قد يكون لها تداعيات على المعركة الرئاسية بين الديمقراطيين والجمهوريين العام المقبل.

في البيان المكتوب الأخير الذي ألقاه من وزارة العدل قبل شهرين، أبلغ مولر الأميركيين بشكل حاسم أنها المرة الأخيرة التي سيتحدث فيها، لكن الاستدعاء القانوني الذي وصله، في 25 يونيو/حزيران الماضي، من مجلس النواب، ذات الأغلبية الديمقراطية، فرض على مولر الجلوس اليوم الأربعاء كمواطن أميركي ومحقق سابق أمام المشرعين لتأدية قسم اليمين والرد على لائحة طويلة من التساؤلات في مسلسل درامي سيمتدّ لنحو خمس ساعات مباشرة على القنوات الأميركية. سيستند المحقق الخاص السابق إلى تحقيقات قادها فريق عمل من 19 شخصاً مع دعم من 40 موظفاً من مكتب التحقيقات الفيدرالي، ما أدى إلى إنتاج مقابلات مع 500 شاهد وإصدار 2800 مذكرة إحضار قانونية.

هناك بعدان أساسيان يطغيان على جلسة الاستماع هذه. تقرير مولر، الذي نشرت وزارة العدل نسخة منقحة عنه في 18 إبريل/نيسان الماضي، يقع في 448 صفحة ويتألف من شقين: الأول معني بالتحقيق في التواطؤ بين حملة ترامب والكرملين خلال الانتخابات الرئاسية في العام 2016 ويتضمن اتهامات ضد ستة من معاوني ترامب، تشمل الإدلاء بشهادة كاذبة وجرائم مالية، بالإضافة إلى اتفاقات تعاون مقابل تخفيف الحكم مع سبعة أشخاص في دائرة ترامب، لعل أبرزهم محاميه مايكل كوهين ومستشار الأمن القومي الأسبق مايكل فلين ومدير حملته الأسبق بول مانافورت. كما وجّه التقرير اتهامات إلى 37 شخصاً وكياناً، منهم 13 مواطناً روسياً وثلاثة كيانات روسية، بتشغيل شركة إنترنت في سانت بطرسبورغ لنشر معلومات مضللة عن السباق الرئاسي الأميركي. كما كان هناك اتهامات لـ 12 ضابطاً استخباراتياً روسياً بالقيام بهجمات إلكترونية على الحزب الديمقراطي والبنى التحتية الإلكترونية للانتخابات الرئاسية.

الشق الأول يشير إلى تدخل روسي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة لدعم ترامب على حساب منافسته هيلاري كلينتون، مع الإشارة إلى أنه لم يجد أدلة حاسمة وحسية لوجود تواطؤ مباشر بين حملة ترامب والكرملين. ويركز الشق الثاني، المثير للجدل، على 11 محاولة رئاسية لعرقلة العدالة خلال التحقيق الذي طاول حملة ترامب، لا سيما محاولة مستشار ترامب القانوني دون مكغان تنحية مولر عن موقعه كمحقق خاص في هذه القضية. التقرير لم يصدر أي اتهامات مباشرة للرئيس بعرقلة العدالة، لكن لم يعطه صك البراءة أيضاً. مولر تطرق إلى هذه النقطة بالتحديد خلال خطابه المتلفز قبل شهرين، حين لفت إلى أنه قرر عدم توجيه أي اتهام طالما أن إرشادات وزارة العدل لا تسمح له بالادعاء على رئيس في منصبه. وبالتالي أوحى مولر أن قرار إدانة الرئيس يعود إلى مؤسسة دستورية مثل الكونغرس، مخولة للقيام بهذا الأمر وليس ضمن صلاحية المحقق الخاص.

وزارة العدل زادت الضغوط على مولر، أول من أمس، عبر تسريب الرسالة التي وجهتها له كي يبقى ضمن حدود التقرير خلال شهادته. تقول الرسالة، بكل صراحة، إن وزارة العدل لا توافق على ذهاب مولر إلى الكونغرس، لكن تعتبر أن هذا القرار يعود له. كما تُذكره بأن عليه تفادي الإجابة عن أي سؤال حول معلومات خارج نطاق تقريره، أو معلومات حول المقاطع في التقرير التي تم إخفاؤها من قبل الوزارة. والأهم من ذلك، يؤكد البيت الأبيض، عبر هذه الرسالة، أن كل المعلومات التي لدى مولر، وليست ضمن التقرير، لا تزال تحت حظر الامتياز الرئاسي، حتى بعد انتهاء مهمة مولر رسمياً، مع العلم أن هذا الامتياز الحصري لم يعد ينطبق على مولر الذي أصبح الآن مواطناً عادياً. وزارة العدل قررت عدم وضع محامين في قاعة الكونغرس للتدخل في حال أدلى مولر بأي معلومة من خارج التقرير، ويبدو بالتالي أن هناك ثقة بتاريخ وشخصية مولر الذي لا يخرج عادة عن النص. كما لمّحت مصادر ديمقراطية في مجلس النواب، في تسريبات إلى الإعلام الأميركي، أنها لن تضغط على مولر لينتهك هذا الامتياز الرئاسي، وبالتالي كل هذه الأمور التي اتفق عليها مولر مع كل من الكونغرس ووزارة العدل قد تساهم في تسهيل شهادته اليوم بالحد الأدنى على الأقل.



لكن يبقى تكتيك الديمقراطيين خلال جلسات الاستماع في لجنتي العدل والاستخبارات ومحاولة استدراج مولر، ليقول إن عدم وجود أدلة حسية لا ينفي بالضرورة احتمال وجود تواطؤ ما بين حملة ترامب والكرملين. ولعل التساؤل الأهم هو ما إذا سيضغط الديمقراطيون على مولر للخروج عن النص القانوني المُبهم في التقرير، وإعطاء رأي واضح في مسألة عرقلة ترامب للعدالة؟ كما سيركز النواب الديمقراطيون المعتدلون على تفاصيل ما ورد في تقرير مولر لإظهار عدم أهلية ترامب لولاية ثانية، فيما سيحاول التيار اليساري استخدام جلسات الاستماع كفرصة لإعادة تفعيل النقاش حول عزل ترامب في الكونغرس، لا سيما أن هناك 100 نائب ديمقراطي يؤيدون هذا الإجراء حالياً.

أما بالنسبة إلى الجمهوريين، فسيبقى التركيز على استهداف سمعة مولر والتحقيق الذي قاده، مع التركيز على أسباب عدم التحقيق مع كلينتون لاستخدام بريدها الإلكتروني الخاص خلال توليها منصب وزيرة الخارجية. لكن التحدي بالنسبة للجمهوريين يبقى محاولة تمرير جلسة الاستماع في الكونغرس بأقل ضرر ممكن، في وقت يواصل فيه ترامب الهجوم على شهادة مولر، حيث وصفها، في تغريدة، بأنها "مضيعة وقت" و"مطاردة ساحرات"، كما وصف مولر بأنه "متضارب للغاية". وطبعاً ستكون جلسات الاستماع فرصة للنواب الديمقراطيين والجمهوريين لاستعراض المهارات السياسية أمام قاعدتهم الانتخابية بالدفاع عن أو الهجوم على ترامب، وذلك في مواجهة مولر المعروف بتحفظه وحرصه على البقاء خارج الصراع السياسي في واشنطن.

وهناك تقارير أميركية تشير إلى أن مولر، الذي شارك في أكثر من 60 جلسة استماع في الكونغرس خلال مسيرته المهنية، قد استعان بفريق عمل للتحضير لهذه الشهادة، لا سيما المحامي جوناثان ياروسكي الذي لديه خبرة طويلة في التعامل مع الكونغرس، كما أسدى نصائح للرئيس الأسبق بيل كلينتون خلال محاولات عزله في تسعينيات القرن الماضي، كما قاد في المرحلة ذاتها معركة قانونية خاسرة ضد وزير العدل حينها وليام بار (هو نفسه اليوم) لفرض تعيين محقق خاص للتحقيق في سياسات جورج بوش الأب خلال حرب الخليج الأولى. إذا عدنا إلى التاريخ، فإن شهادة مولر، لخمس ساعات، لن تكون موازية لما حصل من مفاجآت درامية خلال تحقيق الكونغرس في قضية "واترغيت" في أيام رئاسة ريتشارد نيكسون، ولا حتى لمعركة "إيران كونترا" في العام 1987، حين حقق مستشارون قانونيون لمجلسي النواب والشيوخ مع المعنيين في إدارة رونالد ريغان، لا سيما من الجيش، على مدى 40 يوماً من جلسات الاستماع المتلفزة.

الإطار التقليدي الذي تم الاتفاق عليه بين مولر ومجلس النواب على شكل جلسة الاستماع لن يساعد على الأرجح للتوصل إلى أي معطيات جديدة. على عكس ما حصل في "واترغايت" أو "إيران كونترا"، فإن الكونغرس لم يحقق بشكل مباشر مع المتهمين، ولن يكون هناك خبراء قانونيون في جلسة استماع اليوم لاستجواب مولر بطريقة فعالة. ما سيحدث اليوم هو كالعادة تخصيص خمس دقائق فقط لكل نائب لاستجواب مولر، وهي فترة تمر بسرعة نظراً لأعداد اللجان، وبالتالي بين إعطاء المشرّع موقفا عاما وطرح أول جولة من الأسئلة قد ينتهي الوقت قبل التوصل إلى خلاصة معيّنة. في نهاية المطاف، الرأي العام سيراقب سردية واستراتيجية الطرفين، الديمقراطي والجمهوري، وعلى الأرجح ستعزز أكثر هذه الشهادة من انقسام الأميركيين حول رئاسة ترامب، لا سيما إذا غامر الديمقراطيون بطرح ورقة عزل ترامب، أو إذا غامر الجمهوريون بحرب مفتوحة على مولر خلال جلسة الاستماع. عنوان هذا الحدث الأبرز في تاريخ واشنطن الحديث اليوم هو تلفزيون الواقع، حيث قد نشهد استعراضاً سياسياً للمشرعين مقابل أجوبة متحفظة من الشاهد النجم، والحُكم قد يكون لصناديق الاقتراع في الانتخابات الرئاسية العام المقبل.