تونس: رجال الأعمال يقررون دخول حلبة الصراع

24 نوفمبر 2016
يعاني أصحاب المؤسسات من السوق السوداء (فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -
الجلسة التي جمعت قبل أيام ثلة من الصحافيين بالمسؤولين في اتحاد الصناعة والتجارة في تونس لم تكن عادية، فهي إلى جانب طولها، حيث استمرت لأكثر من ثلاث ساعات، كانت مثيرة، نظراً لما قيل فيها من معلومات هامة وخطيرة أحياناً. إذ من المعروف أن أصحاب المؤسسات الاقتصادية في تونس، وربما في معظم البلاد العربية، قد عرفوا بالتحفظ وسعيهم للبقاء بعيداً عن الأضواء، وانشغالهم أساساً بتسيير مشاريعهم وتنظيم صفقاتهم بهدوء وكتمان. وقد حافظ رجال الأعمال التونسيون على هذا التقليد، حتى بعد الثورة، رغم الدور الهام الذي لعبته منظمتهم في الحوار الوطني الذي أنقذ البلاد من الفوضى والحرب الأهلية. فما الذي غيّر وجهتهم فجأة، وجعلهم يجمعون بعض الصحافيين ليتحدثوا إليهم بصراحة غير مسبوقة؟

وقالت رئيسة الاتحاد، وداد بوشماوي، في افتتاح الجلسة، إن اتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية قد شارف الآن على السبعين عاماً منذ تأسيسه، وأصحاب المؤسسات قادرون على ممارسة الضغط القوي الذي من شأنه أن يشل البلاد خلال ساعتين فقط، وذلك في إشارة ضمنية منها إلى الحكومة التي اضطرت إلى تعديل بعض قراراتها تحت تهديد الاتحاد العام التونسي للشغل القيام بإضراب عام إذا لم يتم التراجع عن قرار تأجيل الزيادات في الأجور. وبررت بوشماوي ذلك بالقول "نحن نشعر بالغبن... نحن قادرون على رد الفعل، لكن الفترة التي تمر بها البلاد صعبة، وهناك مؤتمر للاستثمار على الأبواب، ونحن نخاف على تونس وعلى مؤسساتنا".

ويعود سر هذا التحول في موقف رجال الأعمال إلى اعتقادهم بأن الحكومات المتعاقبة، بما في ذلك حكومة يوسف الشاهد، قد همشت المؤسسة الاقتصادية، ولم تشركها في ضبط السياسات واختيار الأولويات، وهو ما جعلهم يشعرون وكأن اتحاد الصناعة والتجارة مجرد عجلة احتياط مركونة في صندوق السيارة يتم اللجوء إليها عند الضرورة. من جهة أخرى، يرفض أصحاب المؤسسات الكبرى خصوصاً تلك الصورة السلبية الرائجة عنهم لدى الرأي العام، والتي يغذيها بعض النقابيين والسياسيين، حسب اعتقادهم. ويعتبرون أن هناك مغالطات كثيرة، من قبيل أنهم يسرقون حقوق العمال، ويتهربون من دفع الضرائب وينهبون الشعب والدولة، ولا يهمهم في مؤسساتهم سوى جمع الأموال وتكديس الثروات. ولتغيير هذه الصورة، يؤكدون أنهم يلتزمون بدفع الضريبة، ويطالبون ببطاقة هوية جبائية يحملها معه كل مواطن لمعرفة مدى التزامه بواجبه الضريبي. كما أنهم لم يعترضوا على ما يسمى برفع السرية المصرفية الخاصة بأرصدتهم، لكنهم يطالبون بضمانات قانونية واضحة حتى لا تصبح حساباتهم المصرفية على قارعة الطريق ويستخدمها أي كان لابتزازهم والتشهير بهم.


أما عن اعتراضهم على الميزانية التي يدافع عنها رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، فيذكرون أن ذلك لا يتعلق فقط بأصحاب المؤسسات، وإنما يوجد شبه إجماع على معارضة هذه الميزانية، التي يعتقدون أنها أعدّت على عجل، ولم يتم إشراكهم في مناقشة محتوياتها، أو أنها ستحل المشاكل الرئيسية التي يعاني منها الاقتصاد التونسي في هذه المرحلة الصعبة. ويؤكدون أن العيب الرئيسي في هذه الميزانية أنها تريد معالجة أزمة هيكلية بقرارات ظرفية. وإذ يقر رجال الأعمال بأن العمال هم الذين قاموا بحماية المؤسسات، وتصدوا يوم 14 يناير/ كانون الثاني 2011 للمخربين واللصوص الذي أرادوا سرقتها وإضرام النار فيها، فإنهم في المقابل يرفضون ما وصفوه بتغوّل العمال، لأن من شأن ذلك أن يؤدي إلى إفلاس المؤسسات وانهيارها. وفي السياق ذاته، أكدوا أن حوارهم متواصل مع النقابات، وهم يعتقدون بأن تونس في حاجة إلى نقابات قوية، لكنهم يشعرون بأن البلاد قد أصبحت تحت رحمة النقابيين. واستشهدوا بما ذكره بعض سفراء الدول الأوروبية للشاهد، عندما اجتمعوا به أخيراً، حيث قالوا له إن حكوماتهم لا تستطيع أن تفرض على رجال الأعمال الاستثمار في هذا البلد أو ذاك، فهم أحرار ويبحثون عن الظروف المناسبة التي من شأنها أن توفر لهم تحقيق أعلى نسب الربح. ثم ختم السفراء حديثهم بالإشارة إلى أن المشكلة الكبرى التي تعترض الاستثمار الخاص في تونس تتمثل في كونها قد أصبحت محكومة من قبل النقابات. وهو ما يفسر مغادرة ما لا يقل عن ألف شركة من تونس وانتقالها إلى المغرب خلال السنوات الست الأخيرة.

المعضلة الأخرى التي يعاني منها أصحاب المؤسسات التونسية تتمثل في اتساع رقعة السوق السوداء، أو ما يسمى بالاقتصاد الموازي، الذي تجاوز حجمه 55 في المائة من الاقتصاد التونسي. وما كشف عنه بعض المشاركين في هذا اللقاء قولهم إن المهربين في تونس تحولوا إلى قوة ضاربة، وهو ما جعلهم يؤسسون في ما بينهم بنكاً مركزياً افتراضياً موازياً للبنك المركزي، بعد أن أصبح حجم السيولة المتبادلة بينهم يفوق حجم الأموال المودعة حالياً في البنوك أو المتداولة في السوق الرسمية، ولهم الآلاف من أصحاب السواعد التي تقوم حالياً بفرض إرادتهم على الجميع، ما جعلهم قادرين على ابتزاز أصحاب المؤسسات وممارسة كل أشكال الضغط عليهم، في حين تحاول الحكومة وأجهزة الدولة تقليص حجم الفساد، إلا أن الإرادة السياسية لا تزال ضعيفة أو مفقودة لمواجهة بارونات التهريب بكل صرامة وشجاعة. ما يفهم من هذه الجلسة النادرة وغير المسبوقة، أن أصحاب المؤسسات قرروا الدفاع عن أنفسهم بكل شجاعة، لكنهم يعون أن البلد في حالة هشاشة قصوى، وأن ردود أفعالهم يجب أن تكون مدروسة ومتزنة. فما عساهم أن يفعلوا؟ الأيام المقبلة وحدها ستكشف خطط هؤلاء ومدى قدرتهم على تعديل موازين القوى لصالحهم رغم قوة العواصف.

المساهمون