سد النهضة: قصة الحلم الإثيوبي والكابوس المصري

23 فبراير 2017
سيكون سد النهضة أضخم السدود الكهرومائية في أفريقيا(العربي الجديد)
+ الخط -


منذ أطلقت إثيوبيا خطوات التنفيذ الفعلية لحلمها المتمثل في بناء سد النهضة العملاق، بدأت العلاقة بينها وبين مصر تمر بمراحل متصاعدة من التوتر والشد والجذب، على الرغم من الاتفاقيات التي وُقّعت بين زعماء إثيوبيا والسودان ومصر (رئيس الوزراء الإثيوبي هايلي ماريام ديسالين والرئيس السوداني عمر البشير والرئيس المصري عبدالفتاح السيسي)، أو بين وزراء الري والكهرباء في هذه الدول عبر اجتماعات ولقاءات كثيرة. وعلى الرغم من "التطمينات" التي أطلقتها إثيوبيا على لسان مسؤوليها، إلا أن منسوب التوتر لم يتراجع عن الارتفاع، وظل يتصاعد يوماً بعد يوم بين العاصمتين.
سد النهضة الذي دُشن العمل فيه قبل عامين، سيكون أضخم السدود الكهرومائية في القارة الأفريقية بعد الانتهاء منه في شهر يوليو/تموز المقبل حسب التاريخ المحدد له، وسيمد إثيوبيا بطاقة كهربائية عالية تبلغ حوالي ستة آلاف ميغاواط في العام، وهو واحد من ثلاثة سدود تخطط إثيوبيا لإنشائها بهدف تخفيض حاجتها من النفط المستورد وعالي التكلفة، ولتوسيع قاعدتها الصناعية بتوفير كهرباء رخيصة، وبيع ما يوازي ألفَي ميغاواط للدول المجاورة. يثير ذلك قلق مصر التي تقول إنه سيضر بحصتها من مياه النيل البالغ قدرها 55,5 مليار متر مكعّب يأتي أكثر من 70 في المائة منها من النيل الأزرق المنحدر من إثيوبيا نحو دولتي المصب (السودان ومصر) قبل أن ينتهي في البحر الأبيض المتوسط.
تقول مصر، بحسب تصريحات عدد من مسؤوليها في الشأن المائي، إن نصيبها من مياه النيل "خط أحمر" لا تسمح بتجاوزه باعتبار أن النيل هو المصدر الوحيد للمياه لديها، وأن الاتفاقيات الموقّعة منذ عقود طويلة مضت قد حددت نصيب مصر من هذا المورد الحيوي، وأن المساس بالنسب المحددة بموجب تلك الاتفاقيات بأي شكل من الأشكال، يُعتبر مساساً بـ"أمنها القومي" وهو ما لن تسكت عليه أو تسمح به.
من جهتها، ترد إثيوبيا بأن مشروع بناء سد النهضة، هو شأن داخلي يدخل ضمن حقوق الشعب الإثيوبي، كما أن من حق حكومته اتخاذ ما تراه مناسباً مع تطلعات ذلك الشعب، ويخدم مصالحه الوطنية والقومية، موضحة أن السد لن يؤثر بأي شكل على دولة الممر أي السودان، ودولة المصب أي مصر، لأن الهدف من تنفيذه هو توليد الطاقة الكهربائية التي تحتاج إليها إثيوبيا لدعم مشاريع التنمية لديها، ولتوفير الكهرباء لمُدنها ولمشاريعها الصناعية، وليس لحجز المياه أو الإضرار بالدول المشاركة لها في النيل الأزرق.
بعد مفاوضات مضنية، ولقاءات بين كبار مسؤولي الدول الثلاث، مرت العلاقات بين القاهرة وأديس أبابا بمرحلة من الثقة، خصوصاً بعد توقيع "اتفاق المبادئ" في الخرطوم من قبل الرؤساء الثلاثة (في 23 مارس/آذار 2016)، غير أن سُحُب الخلاف بينهما، عادت من جديد إثر الاهتمام الذي أبدته بعض أجهزة الإعلام المصرية بتظاهرات وأحداث كانت قد شهدتها العاصمة أديس أبابا وبعض مناطق إقليم أورومو قبل أشهر. حينها، اتهمت الحكومة الإثيوبية، مصر صراحةً، بالتدخّل في الشؤون الإثيوبية، وبأنها تقف وراء تلك الأحداث، بدعمها لمعارضيها الذين قالت أديس أبابا إنهم يتخذون من القاهرة مقراً لنشاطاتهم. كما قالت إثيوبيا إن الحكومة المصرية تستضيف عدداً من المعارضين، وتفتح أمامهم أبواب الوسائل الإعلامية للحديث والتحريض على النظام الإثيوبي، وسط أنباء ترددت عن نيّة لإطلاق قناة فضائية بدعم مصري لتلك المجموعات، كنوع من الضغط على ضوء الخلافات المتصاعدة بين البلدين في موضوع سد النهضة، وهو ما اعتبرت جهات إثيوبية نافذة بأنه "تدخّل مباشر من مصر في الشأن الإثيوبي الداخلي، ومحاولة لصب الزيت على النار، والاصطياد في الماء العكر".

سدّ النهضة في إثيوبيا 



في تلك الفترة، قامت الحكومة الإثيوبية، في ظل توجس وقلق من أي خطوة مفاجئة يمكن أن تأتي من قِبل مصر، باتخاذ قرار قضى باعتبار منطقة مشروع السد، وبمحيط 120 كيلومتراً "منطقة عسكرية تخضع لإجراءات عسكرية واحترازية"، مشددة عمليات التفتيش عند الدخول إليها، والخروج منها. والحظر المعلن على الطيران فوق منطقة سد النهضة يمتد إلى داخل عمق الحدود السودانية، إضافة لعمق مماثل لأجواء داخل حدود دولة جنوب السودان، في خطوة احترازية من أي محاولة لاختراق الحظر المضروب حول السد لتأمينه. كما يشمل الحظر أيضاً الطيران المدني إلا بإذن من السلطات التي تتولى تنفيذ هذه الأوامر. كما قامت إثيوبيا بنصب قواعد مضادات أرضية دفاعية لحماية السد، إضافة لحظر الطيران في محيط المنطقة ذاتها. اتُخذت هذه الإجراءات المتشددة، خوفاً مما قد يُهدد السد أو يقوض مشروعهم الوطني الأكبر، خصوصاً أنه كان قد سبق لوسائل الإعلام المصرية أن نقلت تهديدات مصرية، في عهد الرئيس المعزول محمد مرسي، حين طالب بعضهم في اجتماع حضره مرسي نفسه، باستخدام القوة العسكرية والطيران لوقف بناء السد، وهو ما حدا بوزير الخارجية الأميركي جون كيري في حينها، للإعلان خلال زيارة له إلى العاصمة أديس أبابا، أن بلاده "تمنع استخدام الطائرات الأميركية المباعة للدول الحليفة خارج حدودها إلا بعلم واشنطن". وهو ما فُسر وقتها بأنه جاء في سياق طمأنة إثيوبيا من أية مغامرة مصرية تُستخدم فيها طائرات "أف 16" الأميركية التي تملكها القاهرة.
كما قامت مصر، في العام الماضي، بتوقيع صفقة لشراء عدد من طائرات "رافال" الهجومية من فرنسا، وهو ما رفع بحسب بعض المراقبين "درجة الشك" لدى الطرفين، إضافة للعلاقات المتوترة أصلاً بين القاهرة وأديس أبابا. أجواء التوتر بين البلدين لم يخفف منها لقاء السيسي وديسالين، على هامش القمة الأفريقية في العاصمة الرواندية كيغالي قبل عام، نفى خلاله السيسي بشكل قاطع وجود أي نيّة لمصر للتعرض للسد بسوء، مستشهداً برئيس الاستخبارات المصرية الذي كان من بين أعضاء وفده.



رداً على تلك الخطوة، تعاقدت إثيوبيا من جهتها على شراء منظومة دفاعات أرضية من فرنسا أيضاً، نصبتها في محيط السد لحمايته من أي مخاطر تهدده، كما تسهم بعض الشركات الفرنسية الكبيرة في تأمين وتركيب 16 توربيناً لتوليد الكهرباء من السد بتكلفة 300 مليون دولار أميركي، فيما تتولى شركة "ساليني" الإيطالية الشهيرة تركيب تلك المولدات، وهي الشركة نفسها التي تقوم بتنفيذ كل شبكة السدود الإثيوبية القائمة، وتتولى شركة "متك" التابعة لوزارة الدفاع الإثيوبية بناء السد.
استمرار الشد والجذب بين البلدين بسبب مشروع سد النهضة، أدى إلى حالة من الاستقطاب السياسي بين دول المنطقة التي لها علاقة بموضوع مياه النيل من الدول المتشاطئة فيه، وفي أعقاب تفجر هذه الأزمة، حدث تقارب سريع بين مصر وإريتريا، أي بين نظام السيسي وأسياس أفورقي العدو الأول واللدود لإثيوبيا، وقام الأخير بزيارة مصر في ظل هذا التوتر. تلا ذلك استقبال القاهرة لرئيس جنوب السودان سلفاكير ميارديت، الذي دخلت دولته الوليدة التي تمزقها حرب أهلية، على خط المواجهة في عملية تقسيم مياه النيل بين مصر والسودان وإثيوبيا، لكون جنوب السودان كانت جزءاً من السودان الواحد، وتريد ضمان حصتها من مياه النهر الذي يُعتبر تاريخياً جزءاً من نصيب السودان قبل الانفصال.
كما قام السيسي بزيارة للعاصمة الأوغندية كمبالا، للقاء الرئيس يوري موسوفيني، وهو ما يشي بوجود نية لقيام "محور إقليمي" يضم مصر وإريتريا وجنوب السودان وأوغندا، وهي من بين مجموعة دول حوض النيل التي توجد بينها أصلاً خلافات عميقة بشأن تقسيم حصص ماء النهر، إذ ينبع النيل الأزرق من بحيرة تانا في إثيوبيا، فيما ينبع فرعه الآخر، النيل الأبيض، من بحيرة فكتوريا في أوغندا.
من جهة ثانية، وإضافة لهاجس صفقة طائرات "رافال" الفرنسية مع مصر، يثير وجود قاعدة عسكرية في جزيرة اريترية تستخدمها قوات التحالف العربي المقاتلة في عملياتها في اليمن، وتنشر فيها صواريخ من نوع باتريوت، هاجساً مضاعفاً لإثيوبيا لما رشح عن وجود اتفاقية عسكرية بين مصر وإريتريا، وتعاون أمني وثيق بينهما، وهو ما حدا بأحد المسؤولين الإثيوبيين للقول، إنه "يمكن أن يشكّل ذلك تهديداً مباشراً لمشروع السد في حال استُخدم لتنفيذ ضربات عبر أجواء السودان" التي لا يبعد سد النهضة عن حدودها إلا عشرين كيلومتراً فقط، ثم العودة إلى قاعدة الانطلاق باستخدام الأجواء الإريترية. كما ينظر الإثيوبيون بحذر شديد لتطور العلاقات بين مصر ودولة جنوب السودان التي تُعتبر حدودها المتاخمة للحدود الإثيوبية "نقطة ضعف هشة" يمكن عبورها إذا تطورت الأمور ووصلت حد المواجهة العسكرية، وهو تطور مفاجئ في العلاقات، يمكن ربطه برفض مصر داخل أروقة مجلس الأمن الدولي مشروع قرار بفرض "وصاية دولية" على دولة جنوب السودان في ظل الصراع المحتدم على السلطة هناك بين الرئيس سلفاكير ميارديت، ونائبه رياك مشار.


سدّ النهضة في إثيوبيا 


كما تُشكل الحدود السودانية التي لا تبعد منطقة سد النهضة عنها سوى كيلومترات قليلة (25 كيلومتراً)، هاجساً كبيراً لإثيوبيا، لوجود معسكرات تابعة لـ"الحركة الشعبية" كانت قد أنشئت قبل انفصال جنوب السودان عن شماله، وتقع الآن تحت سيطرة الحركة (قطاع الشمال) التي تقاتل الحكومة السودانية وهي منطقة تُعتبر خارج سيطرة حكومة الخرطوم، وتخشى إثيوبيا أن تُنفذ منها هجمات على السد.
وتتميز المنطقة التي تحيط بالسد، بسلسلة جبال شاهقة تشكل حماية طبيعية للسد ويصعب الوصول إليها أو اختراقها، فيما يقوم السد نفسه بين جبلين يُشكلان حاجزاً طبيعياً وصلباً لجسم الخزان، ويبعد عن مدينة أصوصا الإثيوبية حوالي 550 كيلومتراً.
ولا تبدو إسرائيل بعيدة عن هذا الصراع، بدليل ما كان قد قاله رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال زيارته لإثيوبيا منذ أكثر من عام ذاكراً أن بلاده "تقوم بوساطة بين مصر وإثيوبيا لتهدئة مخاوف الطرفين، وتقريب وجهات النظر بينهما في موضوع سد النهضة"، معتبراً أن هذا الجهد "يصب في خانة مواجهة الإرهاب المتنامي في المنطقة". وقام وزير الخارجية المصري سامح شكري عقب هذه التصريحات بزيارة لإسرائيل، وكان موضوع السد واحداً من أسباب تلك الزيارة بحسب مراقبين.

المساهمون