عبد المسيح.. محامي الملكة

01 فبراير 2015
عبدالمسيح من الهايد بارك إلى منصة المحاماة(العربي الجديد)
+ الخط -
يقال أنّ التاريخ يعيد ذاته، بيد أنّ ميشال عبد المسيح، قلب تلك المقولة ومن المنطقة ذاتها التي ارتفعت منها أصوات "فرسان الهيكل" للانقضاض على الشّرق. يصدح صوت عبد المسيح في قاعات المحاكم مطالباً بمحاكمة إسرائيل أمام يد العدالة الدولية. قابلت عبد المسيح في مكتبه في منطقة تمبل، المحاذية لمحكمة الاستئناف العليا.
عبد المسيح الفلسطيني الأصل، قدم إلى بريطانيا في عام 1966، للدراسة وحلم بالحصول على شهادة في هندسة الطيران، بيد أنّ حرية التعبير التي اكتشفها في حديقة هايد بارك كورنر في بريطانيا، عرّفته على مهارات كانت راكدة في أعماقه يجهلها هو ذاته، ما لبثت أن تفجّرت بحماس مع أوّل فرصة سنحت له بحق الكلمة الحرّة ولو كانت مجرّد صرخة في الفضاء.

شعر عبد المسيح بضرورة الكلام في تلك البقعة البعيدة عن بلاده، عن قضية فلسطين في وقت لم يتطرّق إليها أحد. لم يرهب طالب المدرسة ابن الستة عشر عاماً، وجود أهم الشعراء والسياسيين الذين كانوا يركنون إلى تلك الزاوية للتعبير عن مواقفهم ولم يُثنه الـ" هيكيرز" أو ما يُعرف بالمشاغبين الذين يعملون على تشتيت الخطيب أو الاستهزاء به، عن متابعة كلامه.  

لم يتوقّع عبد المسيح أنّ اعتلاء صندوق حليب فارغ على اعتباره منصّة خطاب في تلك الحديقة، سيوصله إلى اعتلاء أهم المناصب في مهنة المحاماة.حتى صدقت نظرية "الكايوس" التي تقول:" إنّ رفّة جناح فراشة فوق بيجينج تستطيع أن تغيّر نظام العواصف فوق نيويورك."غيّر ذلك اليوم مجرى حياة عبد المسيح، وابتعد عن دراسة الهندسة إلى الدفاع عن الإنسان أي إنسان حتى لو تعارضت معه آراءه، هكذا تحكم مهنة المحاماة في بريطانيا.

عبد المسيح ليس محامياً فقط، بل "باريستر" حائزاً على لقب مستشار الملكة الوحيد من أصول فلسطينية أو عربية في العالم، الممارس للمهنة وجائزة المحامي الجنائي المتميّز. هذا وتنفرد بريطانيا وبعض مستعمراتها السابقة بتقسيم مهنة المحاماة إلى شقين مختلفين: السوليسيتر" و "الباريستير".

أمام توجّس عبد المسيح من وقوع الالتباس بين المهنتين، وإلحاحه على توضيح الاختلاف بينهما. أوجز مهام كل منهما:

"السوليستير" هو المحامي الذي يتوجّه إليه الزبائن أولاً لتقديم قضيتهم، وبعد مراجعتها ودراستها، يرفعها إلى "الباريستير" إن احتاجت المسألة إلى استشارة اختصاصي أو وصلت المرافعة إلى المحاكم العليا المتخصّصة. ولا يحق للزبون الاتصال بالباريستير بشكل مباشر والعكس صحيح.

يلعب الـ "Clerks" دور الوسيط بين السوليستير والباريستير، ومقر تواجدهم عادة ما يكون في مكاتب الأخير، حيث يتولون إدارة المكتب من تنظيم جدول جلسات المحاكم والمقابلات وغيرها.

يشرح عبد المسيح أنّ لكل باريستير اختصاص معيّن على عكس السوليستير الذي شبّهه بالطبيب العام. أمّا عبد المسيح فقضى تخصّصه سابقاً في تولي القضايا الجنائية الكبيرة التي تصدّرت الصحافة وشغلت المحاكم في بريطانيا ومنها محكمة "أولد بيلييه" إحدى أقدم وأهم المحاكم في العالم، ويعمل حالياً على القضايا الدولية والعالمية.

يتمتّع عبد المسيح بكاريزما مميّزة تجمع روح النكتة والصرامة في وقت واحد، فيتخلّل حوار بالغ الجدية بعض المزاح الذي يقضي على رتابة الموضوع.

القانون مليء بالمفاجآت يقول عبد المسيح، ويتحدّث عن قضايا استلمها وغيّرت في القضاء البريطاني، ومنها قضية خطف الطائرة الأفغانية والهبوط بها في مطار ستانستيد البريطاني، اتّهم بها تسعة رجال أفغانيون هربوا من طالبان ولجأوا إلى بريطانيا. شغلت تلك القضية الصحافة وزعماء من حزبي العمال والمحافظين في عام 2006 ووصف طوني بلير رئيس الوزراء آنذاك حكم القضاء بالمنافي للمنطق السليم. إذ حصل خاطفو الطائرة على البراءة وحق الإقامة في البلاد.

ولا تختلف قضية خطف الطائرة السودانية في عام 1996 عقب الهجوم الأميركي على الخرطوم، حيث هبط العراقيون الستة خاطفو الطائرة في مطار ستانستيد بركابها الـ 197 وطاقمها. دافع عبد المسيح عنهم وحصل على براءتهم، أمام ذهول الرأي العام والصحافة والسياسيين.

أمّا القضايا التي أثّرت في شخص عبد المسيح، وجعلته يعي كيفية التعامل مع قضايا الإرهاب، فكان أهمّها تفجير فندق "جراند أوتيل" في منطقة برايتون أيام الحرب الإيرلندية، حيث اجتمع مؤتمر لحزب المحافظين في عهد مارغريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا سابقاً.

شارك عبد المسيح في طاقم الدفاع عن المتّهمين السبعة. وقاد اللورد ريتشارد مستشار الملكة وممثّل بريطانيا في الأمم المتحدة، طاقم الدفاع على الرّغم من رفضه لمبدأ التفجيرات، التزم بواجبه المهني ودافع بشراسة عن "إيللا أودواير" المتّهمة الرئيسية بزرع القنابل التي تركت بصماتها على جميع المتفجّرات.

كان عبد المسيح آنذاك محامياً مساعداً، لفته معالجة مو مولام وزيرة في الحكومة البريطانية متخصّصة بشؤون إيرلندا الشمالية، للجريمة إذ توجّهت إلى السجون وتفاوضت مع رؤساء الجيش الإيرلندي باسم الحكومة البريطانية.

 أبدى عبد المسيح احترامه، حين رأى الدولة تتفاوض مع الإرهابيين عوضاً عن سحقهم.

قبل عام من حصول عبد المسيح على لقب مستشار الملكة، تولّى قضيّة عُرفت باسم "تامبلين"، تلك القضية التي تردّد بإبلاغي عنها، ثمّ لفت إلى ضرورة توضيح مهنة الباريستر التي تفرض الدفاع عن المتّهم مهما كان نوع جريمته.

هي مأساة شاب سوري وقع في غرام مومس انكليزية، عملت على استغلاله. تحمّل الشاب تماديها، إلى أن سرقت مجوهرات والدته وهربت.

توجّه الشاب إلى الشرطة، بيد أنّ الأخيرة طلبت منه الإتيان بدليل مادي لإثبات الجريمة واقترحت عليه تسجيل صوت المتّهمة.

اقتنع الشاب، واشترى جهاز التسجيل واتّصل بالفتاة، طالباً منها مقابلته في سكنه على أن تسلّمه المجوهرات مقابل دفع ثمنها. وافقت الفتاة.

يخبرني عبد المسيح بأسلوب مشوّق عمّا سُمع على التسجيل في قاعة المحكمة:" طرقات على الباب... وقع أقدام على الأرض... صوت شخص ينازع!! وفجأة صوت رجل آخر:"خذي المحفظة والمال" ...وما هي إلاّ دقائق حتّى يتردّد ذلك الصوت:" أين خنجري؟"... مع تواصل صوت احتضار شخص.... وقع أقدام مجدّداً وباب يوصد."

ثلاثة من هيئة المحلّفين فقدوا الوعي لدى سماع الشريط. هكذا يصف عبد المسيح فظاعة التسجيل الذي اقشعرّت له الأبدان.

بعد أيام ألقت الشرطة القبض على الفتاة والرجل، ووجد عبد المسيح ذاته، أمام قضيّة تتنافى وإنسانيته وتعاطفه مع الضحية، قضت مهنته بالدفاع عن الرّجل المتّهم في قتل الشاب السوري.  

كان روني تامبلين صاحب سوابق في الإجرام. لكنّه نفى تهمة القتل وقال، إنّه رافق سامنتا إينوك، المتّهمة إلى سكن الشاب لحمايتها في حال تهجّم عليها عشيقها السوري، ولكنّه فوجئ بها هناك تسحب خنجره وتطعن الشاب نحو عشرين طعنة. وبرّر بذلك صوته على التسجيل حين سأل: "أين خنجري؟". كما لفت إلى أنّه يهوى جمع الخناجر.

في المقابل اتّهمت إينوك، تامبلين بالقتل قائلة أنّها طلبت منه مرافقتها للقاء عشيقها خوفاً من الاعتداء عليها، بيد أنّها تفاجأت به هناك ينهال بالخنجر عليه.

أذهل عبد المسيح، الحاضرين في قاعة المحكمة حين حصل تامبلين على البراءة من جميع التّهم المنسوبة إليه في وقت حُكم على إينوك بالسجن المؤبد.

أشار عبد المسيح إلى النقطة المهمّة التي ساعدته على الفوز بالقضية ، إذ أوضح أنّ المجرم المحترف كما تامبلين، يكتفي بطعنة واحدة للقتل، أمّا تلقي عشرين طعنة فلا بد أنّها ارتبطت بمشاعر من الغضب، وهي حال إينوك التي جمعتها علاقة بالمغدور به.

يعتبر عبد المسيح الرائد في محاولة جلب المتهمين الإسرائيليين بجرائم دولية إلى العدالة. والقضية الأولى محاولة توقيف إسحق شامير رئيس وزراء إسرائيل المطلوب أمام العدالة البريطانية.

أمّا قضية الإماراتيات الثلاث التي عُرفت باسم "المطرقة"، فتأثر بها عبد المسيح، ووصف النساء بالمسالمات والمثقفات، اللواتي أتين برفقة أطفالهن في رحلة سياحية إلى العاصمة البريطانية لندن، وتعرّضن لاعتداء وحشي بالمطرقة على رؤوسهن في غرفة فندق "كامبرلاند أوتيل" في شارع أوكسفورد ستريت.  

كما هو معلوم حكم على المعتدي بالسجن المؤبد وعلى شريكه بـ 14 عاماً. ولا تزال القضية المدنية جارية، وتدعو الفندق إلى الاعتراف بمسؤوليته عن حماية نزلائه ولغاية اللحظة يرفض الفندق ذلك.

مئات من القضايا الكبرى استلمها عبد المسيح، لكنّني اخترت منها الأكثر إثارة.

بعيداً عن مهنة المحاماة يعشق عبد المسيح التمثيل، ولطالما حوّل قاعات المحاكم إلى مسارح أو دراما وذلك من خلال عرضه المشوّق للقضية. هكذا وصفه الكثير ممّن شاهدوه في المحكمة. كما يهوى الطبخ والسينما والمسرح.

ينهي عبد المسيح حديثه بالقول، إنّ ما يبدو بسيطاً في المحكمة يحتاج إلى ساعات طويلة من التحضير والدراسة وقد يمضي الباريستر 10 ساعات تكون نتيجتها سؤال واحد، لأنّ أي خطأ قد يودي بمستقبل إنسان في غياهب السجون.  








المساهمون