فلنتحدث في الإبداع

31 مايو 2016
لوحة للفنان اللبناني كميل حوا (بإذن من الفنان)
+ الخط -
لا يؤمن الفنان اللبناني كميل حـوّا أن الفن صناعة فردية، وأن ثمة وجودًا لفـن فرديّ. 
وبحسب قراءته الواردة داخل سطور هذا الحوار، حتى لو عاش الفنان في مغارة طوال عمره، فإنه يحمل في جيناته تراث الذين سبقوه، أي أنه وليد تراكم فني شاء أم أبى، اعترف أم أنكر. فمثلًا العالمون بالموسيقى يعرفون بيتهوفن من عدة نغمات، لكن هذا لا يعني أنه صنع موسيقاه من معدن خاص، بل من انصهار معادن كل الذين سبقوه من صانعي الموسيقى.

ومن زاوية النظر هذه يصل حـوّا إلى الاستنتاج التالي: حين يقدم أي فنان عملًا فنيًا ذا قيمة، فلا بد أنه امتلك ثلاثة عوامل؛ الانتماء إلى التراث والانتماء إلى العصر ومن ثم موهبته وإحساسه الفردي. فلا يمكن أن تكون تراثيًا إذا لم تكن عصريًا، ولا عصريًا إذا لم تكن تراثيًا، ولا فنانًا إذا لم تملك إحساسك الخاص. وهذه جدولة من ثلاثة عوامل ترتبط ببعضها، وتشكل تُكأة لا استغناء عنها للإبداع.

وفي توكيده على العامل الثالث، ما يشي أنه أعاد الاعتبار- ربّـما بقصد منه- إلى خصوصية كل فنّـان والتي من شأنها أن تؤطّـر مُنجـزه في نطاق ما سماه "الصناعة الفرديـّة".
كل هذا الكلام لحـوّا يندرج في إطار الحديث عن الإبداع، وبالأصح الحديث عن المفاهيم الشخصية للإبداع.
مثل هذا الحديث يشكل منذ سالف الأزمان أحد معايير مقاربة الإبداع من طرف الدارسين والنقّـاد، ولا سيما فيما يختص باستجلاء الينابيع الأدبية والاجتماعية والنفسية لأصحاب النصوص.
وحين لا يكون هكذا حديث متيسرًا بالنسبة لأحد المبدعيـن، سواء من خلال مقابلات خاصة أو محاضرات أو سير ذاتية وما شابه، يُشير الدارسون والنقّـاد إلى ذلك في المعتاد بصفته "حلقة مفقودة" تجعل البحث عن هذه الينابيع مشوبًا بنواقص كثيرة نتيجة اعتماده إلى حدّ بعيد على النصوص فقط. 
وقد ينطبق حُكم "التراث التراكمي" على الحديث عن الإبداع بمرور العصور.

ففي أحد المقالات الصحافية الأسبوعية التي نشرها غابرييل غارسيا ماركيز في أواسط ثمانينيات القرن العشرين الفائت، وكان بعُنـوان "حسنًا، فلنتحدّث في الأدب"، أشار من بين أمور أخرى إلى شعوره بالرضى من حوار دام نحو أربع ساعات أجراه مع رون شيبرد أحد المحررين الأدبيين في مجلة "تايم" الأميركية. ولفت إلى أن أمرين اثنين جعلاه يشعر بالرضى عن هذه المقابلة: الأمر الأول، أن شيبرد لم يحدثه ولم يجعله يتحدث إلا عن الأدب، وأثبت من دون أي أثر للحذلقة أنه يعرف جيدًا ما هو الأدب؛ الأمر الثاني، أن هذا المحرّر الأدبيّ قرأ بتمعن شديد جميع كتبه ودرسها جيدًا، ليس كل كتاب منها على حدة وحسب وإنما كذلك في تسلسلها وفي مجموعها، كما أنه تجشم عناء قراءة عدة مقابلات أجريت معه كي يتفادى توجيه الأسئلة التي تُوجّه إليه دائمًا.

وأضاف: "ولم تثر هذه النقطة الأخيرة اهتمامي كثيرًا ليس لأنها تتملق غروري - وهو أمر لا يمكن ولا يجب استبعاده على أي حال عند الحديث مع أي كاتب بمن في ذلك أولئك الكتاب الذين يبدون متواضعين - وإنما لأنها أتاحت لي أن أبين بشكل أفضل ومن خلال تجربتي مفاهيمي الشخصية عن مهنة الكتابة" (من كتاب "كيف تُكتب الرواية"، ترجمـة صالح علماني، 1988).
واعترف ماركيز أنه عندما ودع محاوره ظلّ مضمّخًا بالحنين إلى ذلك الزمان الذي كانت فيه الحياة أكثر بساطة، وكان المرء يستمتع بلذة إضاعة ساعات وساعات للحديث في الأدب وحسب. 
غير أنه في سياق لاحق، استدرك قائلًا إن ثمة شيئًا واحدًا يفوق الحديث في الأدب هو صناعة الأدب الجيّد.

استهلّ ماركيز ذات المقال باستذكـار مقابلة صحافية قديمة مع خورخي لويس بورخيس قال فيها إن مشكلة الكُتاب الشباب في ذلك الحين كانت في أنهم يفكرون وهم يكتبون في النجاح أو الفشل، في حين لم يكن يفكر في بداياته إلا بالكتابة لنفسه.

ومن المنطقيّ الاعتقاد أن القائل لا يستخفّ هنا بجمهور القرّاء، بقدر ما يرسم الطريق نحو تجنّب الأزمة التي قد يواجهها المبدع حين يحسّ بوجود فجوة بين رغبته في تطوير تكنيكه الجماليّ والفني وبين مستوى الاستيعاب الفنيّ لدى العنوان الذي يكتب إليه وبات أكثر فأكثر أحد أهم عوامل النجاح أو الفشل.
المساهمون