إبراهيم منيمنة : لا حماية قانونية للأبنية التراثية ببيروت

14 يونيو 2016
المعماري والمصمم المديني إبراهيم منيمنة
+ الخط -
منذ فترة قصيرة، برز اسم المهندس المعماري والمصمم المديني اللبناني إبراهيم منيمنة، رئيسًا للائحة "بيروت مدينتي" التي خاضت غمار الانتخابات البلدية لبيروت، التي جرت مؤخرًا. ولا شك في أن اللائحة، غيّرت كثيرًا في مشهدِ انتخابي بدا راكدًا على الدوام. وبدا برنامجها الانتخابي قريبًا جدًا من المدينة وأهلها، وفي الوقت نفسه نمّ عن معرفة بالمدينة ومشكلاتها، المدينة كحيّز عام، المدينة كعمارة وتصميم مديني.

* لديك إجازة في هندسة العمارة وماجستير في التصميم المديني. خلال دراستك عملت على عدة أحياء في بيروت، من بينها شارع بلس في منطقة الحمرا.

نعم كان ذلك، مع زملاء لي في "استوديو تصميم مديني" urban design studio ضمن إطار مبادرة الجامعة الأميركية في بيروت باتجاه جوارها. إذ كانت راغبة في أن يكون لديها تدخل بالمعنى الإيجابي أي كالتزام من قبلها، في حي هي في قلبه. ومنطقة شارع بلس في منطقة الحمراء تحديدًا، تعرضت لتأثير كبير عند إنشاء الجامعة الأميركية نفسها، فهي منطقة تعتمد بشكل رئيس على الطلاب وهم من مشارب متنوعة ومختلطة وجنسيات مختلفة. لذا حين أنشئت الجامعة الأميركية كمبنى، صار لشارع بلس، طابع كوزموبوليتي، إذ الاختلاط فيه واضح، وهو ما أثّر بدوره في منطقة الحمرا. بل إن منطقة الحمرا التي يعود إنشاؤها تقريبًا إلى خمسينيات القرن الماضي، كانت نتيجة لرؤوس الأموال الفلسطينية غير المحلية، جزء منها يعود إلى المتمولين الفلسطينيين الذين قدموا إلى بيروت من بعد نكبة عام 1948. لذا فإننا نجد في الحي اختلاطًا لا نجده في أماكن أخرى، نتيجة للجامعة الأميركية ولنشأة الحمرا كمنطقة جديدة في بيروت، لكنها لا تحمل طابع مجموعة من الناس بعينها.

* ماذا عن مشروع التخرج في العمارة؟

كان مشروع تخرجي من جامعة بيروت العربية عن مركزٍ ثقافي لمدينة بيروت من خلال استعمال الـ cyber space. فكرة المشروع كانت قائمة على أن يكون لهذا المركز دور في المدينة، كي يؤدي إلى تطوير الثقافات المتنوعة لبيروت من خلال العمل على نوع من التجانس والصهر.

* أي استعمال التكنولوجيا لترميم النفس الكسيرة، بعد الحرب الأهلية؟

الأمر يتجاوز التكنولوجيا. فكرة الـ cyber space، تعني أن المرء يكون مرتبطًا بشبكة الإنترنت، بمعنى أنه يعيش في عالم الإنترنت كحالة ذهنية. الفكرة كانت تحويل تلك الحالة الذهنية إلى شيء متجسد. فأنا من خلال أبحاثي عن الـ cyber space، وجدت أنه يؤدي إلى نوع من التقارب، لذا اخترت للمشروع موقعًا ذا دلالة؛ منطقة بشارة الخوري.


* وماذا عن الماجستير في التصميم المديني؟


وقتها اخترت منطقة الجميزة، نظرًا إلى أنها منطقة متنوعة جدًا بطبيعتها، أو في أصلها، إذ هي منطقة قديمة جدًا. مع مرور الزمن، صار فيها تراكم لأنواع كثيرة من الطرز المعمارية. ففي حوالي عام 1800، كان فيها بيوت تابعة لأراضٍ زراعيةٍ كبيرة، وكانت عبارة عن مبانٍ مكعبة، بسيطة جدًا ومبنية من الحجر، لم يبقَ منها إلا القليل. وفي المنطقة أيضًا ما اصطلح على تسميته بالبيت اللبناني أو البيت البيروتي، البيت ذو السقف القرميدي، وحيث الصالة الرئيسة فيه تضم أقواسًا ثلاثة متصلة. لقد بدأ هذا الطراز بالظهور حين كان الناس ينظرون إلى الجميزة أو "يستعملونها" باعتبارها ضاحية لبيروت. خرج الناس بشكل متدرج من بيروت القديمة أي المدينة القديمة المسورة، واستعملوا الجميزة كما لو أنها ضاحية. ولاحقًا أنشئ طريق خط طرابلس الذي مثل رابطًا قويًا بين بيروت والشمال، وكان يمر في الجميزة عبر شارع غورو حاليًا، فتغيّرت المباني حول هذا الشارع. وظهر ما سمي بـ house apartment، أي بيوت شقق. وكانت عبارة عن مبنى من ثلاث طبقات، وله سقف قرميدي يشبه البيت القديم، وله درج خارجي يصل إلى كل شقة. كانت تلك المباني واقعة مباشرة على الشارع من دون "وجيبة"، وكان الطابق الأول منها يستعمل عامّة لأغراض تجارية محال ودكاكين وما إلى ذلك. أي على مر الزمن منذ عام 1700 وحتى تقريبًا عام 1950، حيث نجد الأبنية الحديثة، حصل تراكم معماري كبير في منطقة الجميزة وتنوع.

* الجميزة والحمرا ومنطقة بشارة الخوري، تؤلف مع أحياء غيرها بالطبع مدينة بيروت، التي يمكن القول إنه بسبب الحرب الأهلية تعرض نسيجها المعماري للتخريب. لكن هذا المشهد المعماري الذي وصفته، أيسمح بالقول إن المدينة كانت ذاهبة باتجاه حداثة ما، وأن الحرب عطلتها أم لا؟

أظننا نستطيع فهم بيروت كمدينة، من خلال النظر إليها باعتبارها مجموعة من الأحياء أو "المجاورات"، حيث لكل منها طابعه الخاص. إلا أن المشكلة في بيروت "حصلت" حين تم نوع من "التدخل الهندسي"، حيث شقّت الطرق العريضة والجادات والأوتوسترادات بطريقة قطّعت تلك "المجاورات" السكنية، أو الأحياء السكنية من دون الأخذ في عين الاعتبار أو مراعاة التواصل بين هذه الأحياء. وأحد الأمثلة القوية في هذا المضمار منطقة بشارة الخوري، التي صارت لاحقًا بمثابة الخط الفاصل بين "بيروت الشرقية" و"بيروت الغربية" (من أجل هذا اخترتها لمشروع الـ Cyber space). فأنتِ إلى اليوم تجدين أحياء لكل منها طابعه الخاص، وتتفاوت قدرتها على الاستيعاب، بمعنى قدرة هذه الأحياء على "استيعاب" سكان من خارج المجتمعات التي اعتادها أهل المنطقة، وذلك طبعًا وفقًا لكل حي أو منطقة. لذلك تشعرين في بيروت أنه ثمة مناطق شبه مغلقة، وأخرى أقل انغلاقًا وثمة مناطق منفتحة كليًا، ثمة في هذا المجال تنوع في بيروت. لكن هذه النقطة يمكن "اللعب" عليها إن جاز التعبير، فمثلًا من الممكن التأثير سياسيًا أو "اللعب عليها"، إذ ثمة مخاوف لدى منطقة معينة من منطقة أخرى، هذا "يستثمر" سياسيًا.

* لكن لو لم تحدث الحرب الأهلية، أكانت بيروت - بشكل خاص باعتبارها صورة عن الحرب الأهلية - فعلاً ذاهبة باتجاه الحداثة معماريًا وتصميمًا مدينياً؟ أكانت فعلا سويسرا الشرق، وفي صدد تطوير عمارتها المحلية؟ أم أن الأمور كانت عشوائية؟

نعم بالتأكيد، كانت في صدد تطوير الشيء المحلي، وكذلك كانت ذاهبة باتجاه الحداثة. لكن لا أعرف إن كان بإمكاننا استعمال لفظ "عشوائية". إذ لا يوجد إدارة لنوع التصاميم المعمارية، كان ثمة توجه، صحيح أننا نجد مبانيَ تحاكي الحداثة أو الطراز العالمي Style internationale، الذي راح ينتشر في بيروت، خصوصًا في منطقة الحمرا، التي أنشئت وبنيت أصلًا وفقًا لهذا التصور. ومعماريًا لا علاقة مباشرة لهذا مع الحرب كـ "فعل سياسي". الأمر المؤثر، الذي له علاقة هو فعلًا التصميم المديني، وكيف كانت المدينة "تتشاجر" مع الوافدين الكثر إليها. فهي كانت في سبعينيات القرن المنصرم، مركز ثقل اقتصادي، يتوافد الناس إليها، إذ يرون فيها "فرصة"، فيهجرون أيضًا قراهم. ثم صار هذا الاختلاط الذي لم يكن متوازنًا ولا مدروسًا، ولعل هذا "ساعد" إلى أن يؤدي هذا الاحتكاك بين المجموعات البشرية إلى ما يشبه "انفجار" الحرب في بيروت، طبعًا بالإضافة إلى العوامل الكبرى الأخرى الكثيرة المؤثرة والمعروفة.


* أريد أن أعرف أكثر عن العامل المحلي، وعن "الحداثة الغربية" في عمارة بيروت، أيهما أكثر تأثيرًا وخرّبته الحرب؟


صحيح، بيروت أخذت من الحداثة الغربية، فهذا الطراز أعني الطراز المعماري العالمي، ليس محليًا. وكانت بيروت بهذا المعنى ذاهبة باتجاه "حداثة" من هذا النوع والدليل وفرة هذه الأبنية، فتقريبًا معظم أبنية بيروت هي من هذا الطراز العالمي الذي ما زال رائجًا. لكن من المؤكد أيضًا وجود خصوصية معمارية في بعض الأحياء، فلدينا مواد معينة وأمور تتعلق بالتخطيط والتوزيع الداخلي. إلا أن المهم في رأيي، أنه عادة لا يكون الأمر موجهًا، لا في بيروت ولا في غيرها من المدن، إذ لا يقال مثلًا يجب استعمال طراز معماري بعينه أو اتباع مدرسة معمارية ما. فـ"الدولة" لا تشجع طرازًا أكثر من غيره مثلًا، إنه خيار المعماري أولًا وأخيرًا، إلا في حال كانت منطقة أو حيا معينا له خصوصية، كخصوصية تراثية، عندها يصير التوجيه له والالتزام به قانونيًا.

* كتب المعماري اللبناني يوسف أفتيموس "تقاس عظمة كل بلاد بعدد مهندسيها، فإن كثروا كانوا دليلًا على رقيها" في إطار ما يقوله، كيف تنظر إلى المعماريين اللبنانيين الذين لديهم مساهمات منظورة في المدينة؟

لا شك في أن لدى المعماريين في بيروت، وفي لبنان إجمالًا دور كبير، ليس في لبنان وحده بل أيضًا في المنطقة العربية بصورة عامة. إلا أن مشكلة بيروت مختلفة قليلًا، ولا علاقة لها بعدد المعماريين سواء أكانوا قلة أم كثرة. الدور الحقيقي الذي يؤديه المعماريون يكون فعلًا من خلال التخطيط المديني، فهو الدور الأهم من أجل أن يؤثروا في المكان، ويكون لديهم نوع من الرؤيا لبيروت. وهذا الدور في الحقيقية ضعيف جدًا لدينا، صحيح لدينا معماريون كثر يعملون في القطاع الخاص، وهم يعملون وفقًا للقانون الذي هو بدائي نوعًا ما. لا أقصد القانون بالمعنى الحقوقي، لكن أقصد به الـ Master Plan. لا يوجد لبيروت "ماستر بلان" وإنما zoning أي تقسيم فحسب، وهو موضوع من أيام Michel Écochard. بمعنى أن مساهمة المعماريين محدودة لأنهم يعملون ضمن هذا التقسيم أو النطاق المحدد الذي لم يتطور أصلًا منذ الخمسينيات للأسف، من هنا فإن كثرة المعماريين أو قلتهم لا تساعد، إذ هم يعملون على نطاق صغير جدًا وبهذا الشكل يكون sporadic، أي مشتت، أي هو غير منظم وغير مؤطر، لذا تكون ثمة مبادرات فردية هنا وهناك، لكن لا يوجد تنسيق على المستوى العام، لأنه ثمة ضعف في الـ Urban planning إلى هذا الحد.

* لبيروت أيضًا خصوصية، إذ إن التعليم العالي فيها، يعدّ من الأفضل والأعرق في المنطقة العربية. ولا ريب في أن كليّات هندسة العمارة هي سليلة وفية لذلك. رغم ذلك فإننا تقريبًا لا نجد معماريين لبنانيين مؤثرين ولهم تيار معماري، كما مثلًا العراقييْن رفعت الجادرجي ومحمد مكية، أو المصري حسن فتحي، وبالطبع لا يمكن إغفال بصمة اللبناني برنار خوري، ولا أعلم إن كان الأمر ينطبق عليه، تيار أو مدرسة معمارية مؤثرة

من المؤكد أن برنار خوري خلق حالة في بيروت، معماريًا إن أردتِ وفي المنطقة ككل. فهو وغيره من المعماريين اللبنانيين يدفعون باتجاه معين للعمارة في بيروت. إلا أنني لا أشبهه بالجادرجي أو فتحي. برنار خوري حالة بحد ذاته، ضمن هذا الإطار من الممكن القول إنه خلق تيارًا معينًا في لبنان والمنطقة عامة، وليس بالضروري أنه تيار له خلفية فكرية مثل الجادرجي أو فتحي.


* على كل فإن برنار خوري وعمله الأشهر الـ B O 18، الذي "يتطرق" للحرب الأهلية اللبنانية، هو المدخل المناسب ربما للحديث عن المشروع الضخم، أي إعادة إعمار وسط بيروت. ثمة انتقادات كما تعلم، منها أننا لم نعد نرى بيروت العثمانية، وأن ما نراه هو بيروت الانتداب الفرنسي فحسب.


نعم، يوجد نوع من الانتقائية. كما قلتُ منذ قليل حين تطرقت إلى الجميزة وتنوع الطرز المعمارية فيها بسبب قدمها، بيروت أيضًا متنوعة الطرز المعمارية. إلا أنه عند مشروع إعادة الإعمار، كان ثمة رأي "سياسي"، فاختاروا الأبنية المرتبطة بفترة الانتداب الفرنسي على لبنان، من أجل تنفيذ رؤية معينة لبيروت، أو شكل معين لوسط بيروت، لذا فإن الأبنية التي تمثل حقبات أو فترات أخرى، اختفت وتمّت إزالتها. صحيح تمتّ المحافظة على أبنية معينة لفترة الانتداب، فقد كان ثمة نظرة محددة جدًا وقد تطرق لهذا الموضوع كما هو معروف روبير صليبا في كتابه المعروف "ترميم وسط بيروت".

* الترميم في وسط بيروت أيضًا، يشف عن فكرة العودة إلى ما كان "طبق الأصل"، أي محو كل ما يمت للحرب بصلة. لا يمكن انتقاد إعادة الإعمار من هذه الزاوية، إذ كانت عملًا أساسًا. إلا أنه بدا ملفتًا مثلًا أن "إزالة" الأسواق الشعبية، كان لها النصيب الأكبر في انتقاد طريقة ترميم وسط بيروت. أقصد يتولد الإحساس كما لو أن أهل بيروت غير منسجمين مع ما صار إليه وسطها.

صحيح، خصوصًا "البيارتة"، الذين كانوا يمتلكون عقارات كثيرة في وسط بيروت. طبعًا اختفت الأسواق الشعبية، وهي فعلًا كانت من أهم الأماكن التي يلتقي الناس فيها، كانت محلًا للاختلاط يتجاوز الاختلافات والطوائف. نعم، تمت إزالتها فعلًا، ولم يتأمن في كل بيروت بديل عنها. وقد كان هذا أحد الأمور التي تطرقنا إليها في حملة "بيروت مدينتي"، أعني انعدام الأسواق الشعبية من بعد إعادة إعمار وسط بيروت. وهو أيضًا أحد المشاكل الأساسية في بيروت على مستوى التجارة وتأمين فرص العمل، فظهر وسط المدينة وكأنه أقيم بشكل محدد جدًا لأشخاص محددين جدًا، وهذه فعلًا مشكلة.


* نعم فإن اختفاء الأسواق الشعبية، ووجود هذه المتاجر الفخمة، يوحي بإبدال طبقة اجتماعية بأخرى.


أكيد. إذ لم تكن الطبقة الوسطى ملحوظة في مشروع إعادة الإعمار، خصوصًا في المناطق التجارية، لا بل وحتى في المناطق السكنية، فالأبراج الشاهقة والمحلات الفاخرة، موجهة لأشخاص معينين، وللطبقة التي تمتلك المال. ومن نظرة يمكن القول كيف سيكون دور بيروت في المستقبل. فهذا كان تنفيذًا لرؤية معينة، قام بها وقتها الراحل رفيق الحريري. هذه أدوات لتنفيذ هذه الرؤية التي يرونها لبيروت، والسوليدير جزء منها : بيروت مركز اقتصادي، أو مركز للأعمال في المنطقة الخ. هذه النظرة بالطبع لم تأخذ في الاعتبار التنوع خصوصًا في وسط بيروت، أي قلبها، حيث يجب أن يكون لكل الناس باختلاف طبقاتهم وخلفياتهم وطوائفهم. ونظرًا إلى أن هذه الرؤية كانت محصورة جدًا، فإنه حين "فشلت" أو جُمّدت لأسباب سياسية أو اقتصادية سواء ألها علاقة بلبنان أو بخارج لبنان، أصيبت روح البلد بالشلل. وهذا نتيجة لعدم فعالية الرؤية التي كانت مطروحة لوسط البلد. لذا أتصور أنه حان الوقت لإعادة النظر في "سوليدير" كواجهة لاستعمالات العقارات والأراضي وأسعارها، وكيف أنها موجهة لطبقة معينة. يجب أن يصير إعادة انتاج لسوليدير بشكل جديد أي regeneration، أي تجديد أو إحياء.

* لكن الأمر لا ينطبق فقط على وسط بيروت، فهي أولًا وأخيرًا مدينة بحرية. الأمر أيضًا ينطبق على شاطئ البحر الذي لم يعد في متناول الجميع، لذا تبدو بيروت وكأنها تدير ظهرها للبحر.

صحيح تمامًا. ومن وجهة نظر مصمم مديني، تمت مصادرة لهذه الأراضي، وصارت كلها موجهة للقطاع الخاص، وفي أحايين كثيرة بصورة غير قانونية. تدريجيًا، مُنع الناس من الوصول إلى شاطئ بيروت. وهذا أيضًا كان من أحد الأمور التي وعدنا الناس بها في حملة "بيروت مدينتي"، أي أن نحارب من أجل إعادة الشاطئ إلى أهل بيروت. ففي الحملة كان لدينا من عمل على موضوع "دالية بيروت"، أحد الشواطئ، قرب منطقة الروشة، اشتغلوا من أجل حمايتها، إذ كان ثمة من يود أن "يستثمرها"، لكنهم أوقفوا المشروع من بعد مظاهرات وحملات واعتراضات كثيرة في بيروت.

* في ما يخص "بيروت مدينتي"، كثير من الأشخاص فيها، لديهم خلفيات ثقافية لكن ليس بالمعنى التقليدي، ثمة وفرة مثلًا في عدد المعماريين، أيمكن عدها تمثيلًا للمجتمع المدني، ولما يمكن أن يعمله؟

هو عمل ميداني، وإن أردتِ عمل إنمائي خارج السياسة التقليدية، إلا أننا نتكلم عن سياسة تعليمية وعن سياسة البنية التحتية، وسياسة صحية على مستوى بيروت الخ. فقد خرجنا من إطار السياسة بمعناها الحزبي والتقليدي. وذلك لأننا في اللائحة خليط من محترفين وناشطين وعاملين في المنظمات غير الربحية، وكنا قادرين على تقديم مشروع متكامل مبني على عشر نقاط أساسية، وهو حصيلة ما توصلنا إليه بعد التشاور مع كثير من الناس والخبراء. من هنا فإن "بيروت مدينتي" كان أمرًا جديدًا، إذ هي المرة الأولى التي يتبنى الناس مشروعًا طالعًا منهم، يتبنوه كمشروع انتخابي لخدمة بيروت.

* أي "بيروت مدينتي" صورة لما يمكن للمجتمع المدني عمله؟ لكن، إلى أي حد نستطيع النظر إليه باعتباره تعبيرًا عن رغبة الناس في استعادة مدينتهم؟ كما لو أن بيروت ما بعد الحرب لا تعجب أهلها كثيرًاً؟

صحيح أن ثمة من لم يكن راضيًا عن بيروت ما بعد الحرب، إلا أنها خلقت أيضًا نوعا من الاستقرار الاقتصادي الذي جعل الناس متفائلة إلى حد ما. لكن للأسف، وفي السنين العشر الأخيرة، صار الوضع مزريًا، وتفشى الفساد كثيرًا في بيروت، ورأى الناس الإهمال الذي وصل إلى درجة خطيرة. من هذه النقطة وتراكماتها، تولد لدى الناس شعور بأن بيروت لم تعد تشبههم. فقد كانوا من قبل قادرين على العيش فيها، إلا أنه حين انتفى ذلك، وأصبحوا غير قادرين على العيش فيها لظروف اقتصادية وإنمائية، "طفح الكيل" كما يقال، هذه النقطة التي صار التغيير عندها. لكن، لا بدّ من القول، إنه كانت توجد مبادرات كثيرة قبل "بيروت مدينتي"، وجميعها أرادت العمل على تغيير أو تحسين شيء بعينه في المدينة، للأسف لم يحالف الحظ تلك الحملات، نحن كنا محظوظين، ونعد أنفسنا نتيجةً لهذا العمل التراكمي للمبادرات والحملات قبلنا، إلا أنه ثمة فرق؛ فقد كنا راغبين بتغيير من داخل المؤسسات عن طريق صندوق الاقتراع، لنكون في المكان الذي يسمح بالتغيير، فقد أثبت التغيير من خارج المؤسسات فشله، ولم نكن نصل إلى نتيجة. وضمن هذا الإطار، فإن "بيروت مدينتي" تعبّر عن الناس الراغبين بالتغيير، وهي ليست حملة اعتراضية بقدر ما هي حملة إيجابية للتغيير من داخل المؤسسات.


* على كل انتهت النتيجة بين "بيروت مدينتي" و"لائحة البيارتة" بفارق ضئيل نسبيًا؛ 7000 صوت. أيمكن القول إن الذين صوتوا لـ "بيروت مدينتي"، يرغبون برؤية مستقبل لهم فيها، وأن من صوت لـ "لائحة البيارتة" هم أكثر ميلًا لقبول الأمور كما استقرت عليه؟


لا لا يوجد استقرار، ولا أظن أحدًا يختلف حول هذه النقطة. فوضع بيروت الآن سيئ للغاية، ولا أتصور أن في بيروت من هو غير راغب في التغيير. الفرق، أن الذين صوتوا لـ "لائحة البيارتة"، لم يفعلوا ذلك لأسباب لها علاقة بالبرنامج الانتخابي أو بطريق ومنهج محددين، بل لأسباب سياسية وتقليدية أكثر مما هي موضوعية في ما يخص البلدية. إلا أن الموضوع ليس بسيطًا. نحن لا نستطيع تبسيط الموضوع، إذ له أبعاد كثيرة. نحن في "بيروت مدينتي" ما زلنا حديثين على الساحة، وليس لدينا قاعدة شعبية كبيرة، بينما لدى "لائحة البيارتة" شبكة خدماتية تتعلق بتيار المستقبل. الموضوع معقد، ولا نستطيع القول إنه من أجل هذا السبب أو ذاك انتخب الناس. ولا يمكن القول إن الذين صوتوا لـ "بيروت مدينتي" ينظرون للمستقبل أكثر من الذين صوتوا لـ لائحة البيارتة"، لا يمكن وضع اللائحتين بطريقة ثنائية متقابلة. الناس انتخبت لأسباب ثانية، وهي مثلًا رجعت إلى انتماء معين أو حزب معين، إلخ. لكننا رأينا رغبة الناس في التغيير وقد تجسدت في نسبة الأربعين بالمائة من الأصوات الذين صوتوا لـ "بيروت مدينتي"، وهو ما لم يحدث من قبل في الانتخابات البلدية لبيروت بالذات. إلا أننا لم نقدر، أو الناس لم تقدر بعد أن تصدّق أنه من الممكن أن يحدث تغيير، لذا كانت نسبة لاقتراع منخفضة للأسف ولم تتجاوز العشرين في المائة.

* وبالمجمل، كيف تقيم التجربة؟ قلتم إنكم سوف تستمرون. كيف ستتطورون؟ ما خططكم المستقبلية؟

قامت "بيروت مدينتي" بعمل شيء كبير جدًا؛ قدمت أملًا للناس، وقدّمت مثالًا يقول إنه من الممكن لأشخاص أكفّاء ونزيهين ويريدون العمل من أجل المصلحة العامة لا المصلحة الشخصية أو الفئوية، موجودين في البلد، أن يكون لهم تأثير. التغيير ممكن أن ينجح إن اشتغلت الناس. هذا أهم إنجاز لـ "بيروت مدينتي"، التي كما قلت، أعادت الأمل للناس الذين أصابهم اليأس وكانوا على وشك فقدان الأمل. لكن لا بدّ من القول إن نسبة الأربعين من المائة التي حصلنا عليها، لم تخولنا الحصول على حصة في المجلس البلدي، بسبب القانون الانتخابي للأسف، لأنه قائم على نظام الأكثرية.

لكن كما أن "بيروت مدينتي" وليدة تراكم المبادرات والتجارب السابقة، كذلك سيأتي من يبادر بناءً على عملنا. وفي ما يخص "بيروت مدينتي" فنحن في كل الأحوال مستمرون. نحن الآن في صدد مرحلة إعادة هيكلة وتقييم للتجربة، لنعرف تمامًا المرحلة القادمة، ونحدد أهدافًا جديدة لها، لأن الانتخابات البلدية القادمة ستصير بعد ست سنوات. وعلينا بالطبع مهمة استيعاب كل الناس المتحمسين لـ "بيروت مدينتي". ثمة تحديات كثيرة في هذا الصدد، وعلى المستوى الداخلي لـ "بيروت مدينتي" أيضًا. نريد مشاركة الناس ووضع أهداف جديدة، وسيتم هذا خلال الأسابيع القليلة القادمة.

* ثمة في برنامج "بيروت مدينتي" وفي أعضاء اللائحة أيضًا، وفرة في المعماريين. ربما من أجل هذا يوجد هذا الشغل على الحيّز العام والخدمات العامّة: الأرصفة، مواقف السيارات، المواصلات العامة، الحدائق ومعالجة النفايات.

نعم، جزء من برنامج "بيروت مدينتي"، كان الحيّز العام بعدة مداخل : تأمين أرصفة جديدة تشجيعًا للمشي ولاستعمال الدراجة على حساب السيارة. وكذلك المساحات الخضراء المفتوحة للناس، وأيضًا المباني التراثية. جزءٌ كبير من برنامج "بيروت مدينتي" كان متعلقًا بالمساحات العامة والتخطيط المديني والهندسة المعمارية أقصد الأبنية في بيروت.

* كان ثمة لائحة بـ 460 مبنىً تراثياً، وانخفض العدد إلى أكثر من مئتين بقليل. حين تفقد المدينة أبنيتها التراثية، أهي حقًا مشكلة كبرى؟ أنت كمصمم مديني ومعماري، كيف تنظر للأمر؟ أم أن المدن تحتمل التغيير، وأن العمارة والتصميم المديني هما باستمرار اقتراحات جديدة في المدينة؟

من المؤكد أن المدينة تتغير باستمرار، إلا أن السؤال هو عن التغيير، أين سيصير وكيف؟ يجب أن يكون مدروسًا ومنضبطًا، وليس عشوائيًا. في بيروت، الأمور عشوائية وكل شيء مباح. للأسف فإن الانخفاض في عدد المباني التراثية في اللائحة، يعود أساسًا إلى أنها لم تكن محمية، وإنما مقترحة من أجل الحماية. للأسف الشديد لم يصدر قانون يحمي تلك الأبنية، وتدريجيًا راح الناس يتفلتون من الانضباط ويهدمون تلك الأبنية. لم تكن توجد خطة موجهة للأبنية التراثية في بيروت، لذلك اختفت تلك الأبنية تقريبًا من المدينة. وهذا الأمر يدفع الناس للتأسف بسبب غياب جزء من ذاكرتهم. إذ إن الذاكرة مرتبطة دائمًا بفراغ ما، وإذ لم يعد موجودًا إلا في الصور، فإننا نكون في صدد محو ذاكرة جماعية لبيروت. للأمر أبعاد كثيرة. لكن اختفاء تلك الأبنية وغيرها، كان بسبب الإهمال وغياب الوعي وغياب التخطيط سواء في المجلس البلدي أو وزارة الثقافة أو غيرها من المؤسسات.
المساهمون