مزاج بيروتي

14 يونيو 2016
لوحة للفنان الفرنسي هنري روسو (Getty)
+ الخط -
بسبب اتجاه الرياح والنسائم اللطيفة المنعشة، وأسباب أخرى أيضًا، تنتظم المدن مثل باريس ولندن ودمشق ضمن إطار عام يقول : الأغنياء في غرب المدينة والفقراء في شرقها. وفي شرق المدن عامة وضواحيها الشرقية نجد المعامل والورشات الصناعية، وما تبثه من تلوث. نظرة بسيطة إلى أي من خرائط المدن الآنفة، تعطي القول وجاهته من ناحية انتظام توزع الطبقات الاجتماعية. وهذا الانتظام "الخفي" كان وليد الاصطفاء والتجربة.

وفي حال أراد المرء أخذ القول نفسه إلى مدينة بيروت، لاختلّ القول. فلهذه المدينة البحرية خصوصية، ومن أدق الأوصاف لشكلها، ما كتبه المهندس المعماري اللبناني رهيف فياض في كتابه "من العمارة إلى المدينة" :"شبه منبسط مثلث الشكل يكاد يكون متساوي الضلعين، رأس المثلث ناتئ في البحر، وقاعدته تنبت منها التلال وفوقها الجبال". حدودها الطبيعية إذن، جعلت معادلة "الغرب للأغنياء والشرق للفقراء" غير ملائمة. مع ذلك فإن المدينة التي عانت من الحرب الأهلية اللبنانية، وجدت نفسها باسمين : بيروت الشرقية وبيروت الغربية. وراح الشطران يتبدلان ويتغيران على وقع المعارك وحركة انتقال الناس، فظهرت أحياء للأغنياء هنا وهناك، وكذلك الأمر بالنسبة لأحياء الفقراء. اختلطت الأمور فعلًا. وفي منطقة كانت في ما مضى، صناعية، نجد اليوم مراكز ومؤسسات فنية، وغير بعيد منها، في الجميزة ومار مخايل أبنية فخمة جميلة، بتوقيع المعماري اللبناني برنار خوري، الذي وضع بصمته الأقوى تعبيرًا في بيروت في الملهى الليلي الـBO 18، المقام في منطقة الكرنتينا حيث وقعت المجزرة الشهيرة عام 1975. الملهى على مستوى الأرض، وله شكل تابوت، ينزل الناس إليه وعند ساعة معينة، ينفتح التابوت ويستطيع رواد المكان رؤية السماء من تابوت.

اختلاط الرموز والطبقات والدلالات في هذا الملهى، تشفّ عن طبع لبناني يميل إلى التعليق الحاد والسخرية والمباشرة وأيضًا إلى استعمال الألفاظ البذيئة كما لو أنها "صباح الخير". لكن أهم طبع لبناني هو سرعة الاستجابة. سرعة الاستجابة سلبًا وإيجابًا، كهمروجة لا معنى لها حول أمرٍ نافلٍ عن فنان أو فنانة مثلًا، مع تذمّر لا يتعدى الحالة اللفظية تقريبًا بسبب "الفراغ السياسي"، يرافقه "قبول" أدنى للرضوخ، بسبب سيطرة حزب الله الكلية الوجود، وذهابه إلى "ما وراء الحدود" في "مهمة خاصة". ثم رغبة لا راد لها في تسييس أي شيء وردّه إلى مؤامرة أو خيانة أو تطبيع أو تخلّف مزمن، مع توسيع المنظور فلا يقتصر على "لبنان الأخضر". إذ إن الرائج هناك توسيع المنظور نحو الإقليم والمنطقة ثم الغرب.

وسرعة الاستجابة أيضًا في التذمر العلني للناس من كل شيء، وفي ابتكارهم حلولًا لاستعادة الحيّز العام، أو لمنع هضم الحقوق، مثل المطالبة بإقرار سلسلة الرتب والرواتب، وإن لم تسفر عن شيء. أو استيراد كل شيء وتعميمه رائجًا مطلوبًا، من الطراز المعماري وحتى الفساد. وتلك الرغبة المجنونة في الفخر بالعنصرية، كما لو أنها فضيلة. والحدود الواهية بين الاختلاف والانقسام حيال السوريين وقد صاروا في لبنان الشقيق، لاجئين أو "زواراً لفترة طويلة". يتعلق الأمر بالطبع، برصيدهم في المصرف، وطريقة خروجهم من بلدهم؛ أهربًا من القتل والتدمير صوب الخيام والمخيمات؟ أم كباقي البشر؟ وقبل ذلك طبعًا النظرة "الشهيرة" للعمال السوريين.

مع ذلك هي أيضًا مدينة الصحافة ودور النشر والمكتبات والجامعات، وإن على تفاوت وصوب تراجع. هي ورشة من فوضى الأسئلة، لا تهدأ حتى لو كانت راكدة، ثمة شيء في تلك المدينة البحرية، جاذب وجميل.

الفوضى فيها، لا تقتصر على الناس وأعمالهم، بل تطاول أيضًا شكل المدينة وتعرجاتها وتلالها الصغيرة ونهرها المختفي، واختلاط الطرز المعمارية، وصولًا إلى اختلاط كل شيء في أحيائها؛ فقرب بناية فخمة من السهل أن تجد ورشة لتصليح السيارات، ومن بعدها مطعم شعبي ثم متجر فخم لبيع الزهور، وهكذا.


المدينة التي عرفت الحرب الأهلية، عرفت أيضًا إعادة الإعمار. المشروع الذي أعاد الأبنية المخرّقة بالقذائف والطلقات إلى صورتها "طبق الأصل"، ورتب قلب المدينة بطريقة صارمة، شبه مثالية. فغدا وسط بيروت أشبه بصالون فخم للضيوف لا لأهل البيت.

وكمدينة عريقة، اختزنت بيروت طبقات وطرزاً معمارية كثيرة، ويبدو أن التدخل الأول في تصميمها المديني، بالمعنى الحديث، كان فرنسيًا. إذ إن المهندس المعماري والمصمم المديني ميشيل إيكوشار، العامل في سلطة الانتداب الفرنسي، وضع لبيروت مخططها التنظيمي، في ستينيات القرن المنصرم. إيكوشار الذي يميل إلى الجادات والطرق العريضة، بغية وصل المناطق وتخديمها، وضع شيئًا "أوليًا"، يسميه ضيف ملحق الثقافة لهذا العدد المعماري والمصمم المديني اللبناني، إبراهيم منيمنة: Zoning، أي تقسيم لا يتيح للمعماريين بعد ذاك إلا التدخل في نطاق محدود وضيق في بيروت كمدينة. وبالطبع فإن منيمنة هو أيضًا رئيس لائحة "بيروت مدينتي"، التي تمثل إيما تمثيل قدرة بيروت على سرعة الاستجابة.
المساهمون