"معجم الدوحة التاريخي": ذاكرة اللفظ العربي

17 أكتوبر 2018
نور الدين شاطر/ المغرب
+ الخط -

استحوذ مفهوم "المعجم التاريخي" على اهتمام الباحثين والمشتغلين في الدراسات المعجمية منذ منتصف القرن التاسع عشر، والذي يستند إلى البحث في الدلالات لكلّ لفظ في اللغة وتطوّرها وتاريخ كلّ لفظ وتعبير ومستويات استخدام الألفاظ اعتماداً على النصوص والشواهد.

يغيب هذا النوع من المعاجم عربياً، التي لا تزال الأعمال الموضوعة تقف عند حدود المعنى ومترادفاته، ولم يتبلور منذ إنشاء أقدم مجمع للغة الغربية في القاهرة عام 1892، مشروع يتبنّى تسجيل جميع مفردات لغة الضاد الأصيلة منها والمعرّبة والمستدخلة والمولّدة التي استخدمت منذ بدايتها الموثّقة حتى اليوم.

في أيار/ مايو 2013، أعلن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" عن إطلاق مشروع بناء "معجم الدوحة التاريخي للغة العربية"، الذي يهدف إلى رصد تطوّر الألفاظ اللغوية منذ بدايات استعمالها في النقوش والنصوص، وما طرأ عليها من تغيّرات في مبانيها ومعانيها داخل سياقاتها النصية، متتبّعاً الخط الزمني لهذا التطوّر.

كما يتضمن "ذاكرة" كل لفظ من ألفاظ اللغة العربية، تسجِّل، حسب المتاح من المعلومات؛ تاريخ ظهوره بدلالته الأولى، وتاريخ تحوّلاته الدلالية والصرفية ومكان ظهوره، ومستعمليه في تطوراته إن أمكن، مع توثيق تلك "الذاكرة" بالنصوص التي تشهد على صحة المعلومات الواردة فيها.

بعد حوالي خمسة أعوام من العمل المتواصل يستعد "المركز العربي" لإطلاق البوابة الإلكترونية للمعجم في العاشر من كانون الأول/ ديسمبر المقبل، في مرحلته الأولى الممتدّة من أقدم نص عربي مُوثَّق إلى نصوص عام 200 للهجرة، وهي تشتمل على قرابة مئة ألف مدخل معجمي.

في بحثه الذي يحمل عنوان "بناء المعجم التاريخي للغة العربية واقتضاءاته النظرية"، يشير عز الدين البوشيخي المدير التنفيذي لمشروع المعجم إلى أن "معجم العين" يُعدّ أول معجم وصل إلى أيدي العلماء من معاجم اللغة العربية، والذي وضعه الخليل بن أحمد الفراهيدي في القرن الثاني الهجري، في حين يمتد تاريخ اللغة العربية قروناً قبل تاريخ وضع ذلك المعجم.

ويوضح أن "اللغة العربية المستعملة منذ العصر الجاهلي إلى اليوم، لم تستوعب منها المعاجم قديمها وحديثها إلا القليل، وظل كثير من مفرداتها المستعملة خارج دائرة المعاجم لأسباب عديدة، منها سبب منهجي اختاره علماء العربية آنذاك المتمثل في شرط "الفصاحة"، فأُقصيت بموجبه كثير من المفردات المستعملة على ألسنة الشعراء وأقلام الكتاب والأدباء المولّدين".

لم تُدرج تلك المعاجم كثيراً من المفردات ومعانيها المختلفة لسبب منهجي آخر تمثّل في عدم إدراج المفردات المطردة في الاشتقاق، بحسب البوشيخي، الذي يرى أن "المجهود المعجمي العربي، قديمه وحديثه، لم يستطع أن يمثل قدرة المتكلم العربي المعجمية إلا جزئياً، ولم يتمكن من بناء "ذاكرة" للكلمة العربية تحفظ تاريخها في الاستعمال".

يشارك في بناء "معجم الدوحة" الذي يستند إلى أكبر مدونة للغة العربية، ولا يستند إلى أي قاموس قائم، قرابة ثلاثمئة أستاذ من أساتذة الجامعات والعلماء وخبراء اللغة في عدد من البلدان العربية؛ من بينها: الأردن وتونس والجزائر وسورية والعراق وفلسطين وقطر والكويت ولبنان وليبيا ومصر والمغرب وموريتانيا واليمن.

وبحسب "المركز العربي" فقد "استفاد أعضاء الفرق المعجمية من دورات تدريبية وورش عمل وتمكّن خبراء المعجم، وبفضل ذلك، من توحيد منهجية العمل وفقًا لضوابط الدليل المعياري للمعالجة والتحرير الذي وضعته الهيئة التنفيذية للمعجم، واستيعاب تقنيات استعمال المنصة الحاسوبية للمعالجة المعجمية".

تقوم المنهجية المتبعة لدى فريق العمل على إعداد بيبليوغرافيا شاملة لكل ما كتب باللغة العربية وجرى تقسيمه إلى خمس مراحل، تمتد المرحلة الأولى للبيبليوغرافيا من عام 430 قبل الهجرة إلى عام 200 للهجرة، ولا تشمل المطبوع فحسب، بل ما ورد في النقوش والبرديات أيضاً.

وقد أُنجزت بيبليوغرافيا المرحلة الأولى في المرحلة المشار إليها، حيث جُمعت المصادر المنتمية إليها، وجرى توثيقها عبر ذكر بيانات التحقيق ودار النشر وسنة النشر وسنة رحيل المؤلف، أو سنة تأليف الكتاب أوعصره، ثم رُتبّت جميع المصادر والوثائق تاريخياً من الأقدم إلى الأحدث.

ويجري الآن إعداد بيبليوغرافيا المرحلة الثانية الممتدة حتى العام 500 هـ، وقد قُطع في إعدادها الشوط الأهم، وستخضع للمراجعة والتدقيق بإشراف المجلس العلمي قبل وضعها رهن تصرّف الباحثين.

يتزامن موعد إطلاق "معجم الدوحة التاريخي للغة العربية" مع عقد الاجتماع الثاني عشر من اجتماعات المجلس العلمي الذي يضمّ نخبة من كبار علماء العربية، الذين يعكفون على دراسة عدد من الموضوعات والقضايا؛ كاختيار مصادر المعجم، والمفاضلة بين طبعاتها المختلفة، وتأريخ النصوص، وغيرها، حيث أصدروا بشأنها قرارات علمية شكّلت القاعدة المنهجية لبناء المعجم. وسيتدارس المجلس في اجتماعه المقبل إجراءات الشروع في بناء المرحلة التالية من المعجم الممتدة حتى عام 500 للهجرة، وما بعدها حتى زمننا الراهن.

وبذلك تغطّي بيبليوغرافيا المرحلتين الأولى والثانية حوالي عشرة قرون، والتي من شأنها أن تنقل المدوّنة اللغوية من عشرات الملايين من الكلمات إلى مئات الملايين من الكلمات، ما سيمثّل نقلة ضخمة جداً.

يعقب حفلَ إطلاق المعجم مؤتمرٌ علمي بعنوان "المعاجم التاريخية للغات: مقارنات ومقاربات"، تُقدم فيه أبحاث عن المعاجم التاريخية لِلُغات عالمية؛ كالإنكليزية والألمانية والفرنسية، وتتمحور أبحاثه الأخرى حول معجم الدوحة التاريخي للغة العربية في سياق مقارنته بمعاجم عالمية؛ وذلك بحضور أعلام في الصناعة المعجمية الغربية والعربية.

المساهمون