أسعد عرابي.. أبعد من ثنائية التشخيص والتجريد

30 نوفمبر 2017
"مدينة الغربان" لـ أسعد عرابي، 2017
+ الخط -

تعرض غاليري "أيام" في بيروت حتى السادس من ديسمبر/كانون الأول أعمالاً منتخبة من محطات في مسيرة الفنان السوري أسعد عرابي (1941). فنانٌ غنيٌّ عن التعريف يمثّل حالة واثقة الحضور في المسار الطويل من مسعى اللوحة العربية لتثبيت موقعها في تاريخ الفن المعاصر.

الانخراط والعمل في المساحة التي يؤلفها الجهد الإنساني بالانفتاح وبصياغة الأسئلة المشتركة هي البيئة التي تحتضن انبثاق أعمال عرابي. هو الفنان الذي أرهف حاسةً نقدية عالية أعملها في تاريخه وصوّبها نحو مسار الآخرين بثقة وجدارة.

لوحة عرابي الأخيرة لا تشكل انقلاباً في مساره السابق بل تؤكّد ـ وبوضوح أكثر سطوعاًـ مسارها الدؤوب والحثيث في مسار التجريد.

والتجريد ليس المقصود منه في هذا السياق المدرسة التشكيلية المعروفة بهذا الاسم، بل الطاقة الذهنية الكامنة في جوهر كل نشاط فني والتي بدونها لا يقوم تصوّر ولا فكرة ولا معادلة. فهي التي تقود استقطاب مفردات تاريخ كامل بكل ثرائه، المؤتلف والمتعارض، ليعبّر عن معنى وجوده في عمل مفرد.

بهذا المعنى تمضي مسيرة عرابي في الاختزال لتصبح مفرداته الأيقونية مجرد إشارات أو حروف لا تضمن لها دوراً إلا في سياق تناغم موسيقي يشمل العمل برمته.

■ ■ ■

تجربته الواسعة في التشكيل وفي الثقافة عموماً تعفي لوحته من أي سؤال تقليدي حول الأسلوب والتقنية وأدوات العمل. هي لوحة طروب تنبثق عن لحظة "سلطنة" بالمعنى الحرفي للكلمة.

ليست لحظة قدرية على أي حال، فالذي ينهض خلف جاذبيتها اختمار طويل للتجربة والمكابدة، صرف عرابي جلّ عمره في ترويضها كما في تفكيك الأسئلة العديدة والعميقة التي كان وما برح يطرحها على نفسه وعلى الآخرين من داخل الفن ومن داخل الثقافة عموماً.

تشعر أمام لوحته أن اللون يقع في مكانه بدون تصنّع، والخط يأخد مساره بلا تكلّف، والمساحة تنفرش حيث يجب بدون عناء والأشكال برمتها طليقة التكوين، آخذة أماكنها من سطوة الإيقاع.

لم يعش سائحاً بل غارقاً في انتمائه الى أمكنة وتواريخ بعينها، وريشته تفضح هذا الحنان الذي يفيض من متن اللوحة إلى هوامشها لم تكن المنازل والحارات فيها همه الأوحد بل قاطنيها أيضاً ولم يتوقف عند الشوارع والمعابر بل عند العابرين كذلك.

وفي هذا الالتحام ببيئة لها ماضيها وحاضرها تتولد الرعشة الحنونة في عمل أسعد عرابي. فمساكنه مأهولة رغم توزعها مساحات لونية، وناسه تنبض رغم تحوّلها إلى ملامح وحيواناته أليفة والنوافذ لها ذكريات والأبواب توشك أن تفتح للزائرين. كل هذا رغم النبرة العالية للون وللحركة وللعبة التشكيلية الحرة ورغم كل ما يعلّق انتماء الأشياء إلى أي واقع أو واقعة.

■ ■ ■

رغم بعض التعسّف، ومن أجل المزيد من التوضيح، يمكن من الناحية الشكلية النظر إلى أعمال المصوّرين كحصيلة لثلاث مهارات: الرسم والتلوين والتكوين. والتوازنات التي تحصل في نسبة هذه المهارات إلى بعضها تقوم عليها هيئة العمل أو على الأصح تحضر البيئة التي تحدّد مسار التعبير ووجهته.

أردت من سوق هذه الملاحظة في مواجهة أعمال أسعد عرابي كي أشير إلى خاصية في هذه الأعمال وهي أنها تنبثق هيئاتها من المهارات الثلاث على سوية عالية ومتوازنة فهي أعمال لمؤلف وملون ورسام. بامتلاك هذه المهارات نجد تفسيراً لسؤال قدرته على التجرؤ والمغامرة والمدى الرحب من الطلاقة والحرية والعفوية أيضاً في صناعة الأشكال وموضعتها.

إضافة إلى ذلك امتلاكه لأفكاره الخاصة حول الوجود ولرؤية لها اتساع وعمق حول الشرط الإنساني والثقافة ووظيفة الفن. كل هذا الثراء الداخلي معطوفاً على مهاراته الأكيدة تسمح له أن يستدرج إلى عالم لوحته مخلوقات وشخوصاً ووجوهاً وحكايات لها مواقعها في التاريخ أو السيرة أو الأسطورة فيزيدها ثراءً بصرياً وفسحة إضافية للتأمل. عناصر تدخل في لعبته عارية إلا من ايحاءاتها تلبس لبوساً جديداً وتمارس حياة جديدة في عالم من الزهو والألفة والشعر.

■ ■ ■

تتقدّم لوحة أسعد في البساطة وتتقدّم في الاستغناء عن الزخارف إلى مواضع أكثر جلاءً وصراحة وقوة في التعبير. تتقدم في التجريد أي في الجوهري. وإذا كان يحلو لأسعد أن يموضع أعماله في فضاء التلوين مطلقاً وهو محق في ذلك وعلى صواب أكيد، ولكي لا نجحف حق الرسام فيه تجدر الإشارة الى أن لوحته يمتحن في متنها انمحاء التفاصيل على درجة عالية من الحرفية لا تقدر عليها إلا طاقة الرسام المدرك لأهمية ما يجب تثبيته أو تأكيده وفي أي موضع وما يجب محوه أو إدغامه أو تشفيفه الى حدود الإنمحاء.

كما تجدر الإشارة أيضاً إلى أهميّته كمكوّن. لا يحضر اللون في اللوحة إلا في مساحة ذات شكل وموضع محسوبين وإذا كان الإحساس بالعفوية والتلقائية والاندفاع الحر في معالجة الأشكال التي تشغل حيّز اللوحة عنده، هو الذي يطغى على حضرة هذه الأعمال فالصحيح القول أن هذه العفوية إنما تصدر عن تمرّس طويل في صناعة التناغم والموسقة ووراءهما ذلك الإحساس العالي بالتجريد الذي هو في المحصلة سند كل عمل فني حتى ولو ادّعى نسخ الواقع.

كمثال بسيط يمكن سوقه في هذا المقام، إن العين لا تخطىء أم كلثوم ولا القصبجي في أي من لوحات الاحتفالية التي كرّسها الفنان لأسطورة الغناء في مجموعة كبيرة من التشكيلات، والسبب في ذلك إنما يعود ’لى تضافر طاقات الرسم والتلوين والتكوين معاً رغم عدم وجودٍ ملموس لأي تفصيل في سيماء الشخوص من الممكن مطابقته مع الواقع. إنه الاختزال في حدوده القصوى الممكنة والواجبة لتؤدي هذه الأعمال وظيفتها.

■ ■ ■

إن الضمانة لحضور سليم أمام لوحة عرابي تبدأ بالخروج على الثنائيات، ثنائية التجريد والتشخيص أو الشكل والمحتوى أو سواهما. إن حضورها وفعالية هذا الحضور تستمده من منطقها التجريدي الذي هو اختزال اللحظة الثرية لتجربة الأنا واصطدامها بالعالم.

المساهمون