وجه مروان/ وجوه نذير: أيّها يشبهنا أكثر؟

30 أكتوبر 2016
مروان قصاب باشي (1934 -2016)
+ الخط -

تحلو لي المقارنة قليلاً في لعبة الوجوه ما بين مروان قصاب باشي (دمشق 1934- برلين 2016)، وبين نذير إسماعيل (1948- 2016) الذي لم يعرف مدينة غير مدينته دمشق.

لم يمرّ وقت طويل حتى لحِق صاحب اللوحة/الوجه (مروان) بصاحب اللوحة/الوجوه (نذير) في رحلتهما الأخيرة جسداً. فقد كان الأول يرسم عادةً وجهاً واحداً، على مساحة الحامل الكبير الحجم نسبياً يؤلّف هو ذاته لوحته ولا مكان لعنصر آخر، كبر أم صغر، بينما كان الآخر، وهو ابن مدينته ويصغره جيلاً واحداً، فقد كان يؤلّف لوحته من مجموعة من الوجوه، تكثر أو تقلّ عدداً من لوحة إلى أخرى.

ربما ألمَّ بمروان، مع مرور الأيام في برلين التي أتاها شابّاً في أواخر الخمسينيات من القرن المنصرم، شعورٌ بالوحدة والخوف، أو شعورٌ بضياع وجهه بين الوجوه، بالتماهي مع وجوه الملايين الذين يسكن بينهم ولا يشبهونه فبدأ بتحصين نفسه بأعمال ذات روح شرقية، أكمل فيها ما بدأ به من تجارب تحت تأثير الفنان السوري نعيم إسماعيل (1930-1979) قبل مغادرته دمشق، ومن ثم برسم وجوه من ألِفهم أولاً في سنوات السبعينيات ثم انتقل إلى رسم وجهه، ووجهه فقط.

ومن الممكن أن نخمّن أن ما بين هذين التاريخين، يوم قدومه ويوم بدأ برسم البورتريهات، كانت فترة الانشغال بأمور الدراسة والعمل والتعرّف إلى المحيط الجديد وهي أمور يمكن لها أن "تُلهي" عن التفكير وتسرق الوقت، حتى إذا استقرّ به الحال، استفاق على حقيقة أنه وحيد هنا وغريب، على بعد بضعة آلاف من الكيلومترات عن شمس مسقط رأسه.

لم يأتِ ذلك الوجه المعروف ليحتلّ قماش وورق الرسام البرليني مصادفة إذن، بل تدرّجت لوحته من رسم بورتريهات لوجوه محدّدة: أصدقاء وأدباء معروفين؛ إلى رسم وجهه كقطعة من الأرض ذات تضاريس لكنه يحتفظ -هذا الوجه- بمفرداته من عين وأنف وفم بشكلها الطبيعي، وفي مكانها الطبيعي، حتى أتى اليوم الذي تجاسر فيه على تحطيمه بضربات ريشة عريضة. حطّم التشخيص لصالح التجريد لكن بخفر.

وهنا، هل نستطيع القول إنه خاف من الذهاب بعيداً في تجربة التجريد، إلى أقصاها، فقام بوضع ضربات سريعة توحي بشكل الفم وأخرى تشي بمكان العينين في تشكيله؟ أم نردّد مع النقّاد والكتاب ما يسطرونه في مناسبات عديدة حول الوجه المأزوم وتراكم الطبقات التي تؤلّف الوجه، و"باليت" الألوان التي حملها معه من شموس وتراب بلاده؟

قالوا يرسم وجهه وحتى الآن لم يصرخ أي طفل -كما في الحكاية- في تلك الصالات التي عرضت آخر أعماله، إن هذه لوحة تجريدية تعزف على مقامات اللون لا الشكل.

يقول الراحل في مقابلة معه سنة 2008 إنه منذ السبعينيات بدأ برسم الوجه لا ليكون مجرّد وجه، بل "ليجسّد ذكرياته عن الوطن بسهوله وجباله والحياة فيه، من ذكريات الطفولة على أطراف دمشق، حيث تحوّلت الطبيعة بترابها الأحمر والبني والسماء الزرقاء إلى آفاق لا نهائية"..."في الثمانينات صار الرأس يبدو متطلّعاً نحو السماء، ومع تغيّر الزمن بات الرأس رمزا للحب". ويضيف في المقابلة: "يجب أن تكون لي علاقة راهنة مع ما أرسم سواء كان تفاحة أو امرأة أو غيرهما، وأنا بعيد عن هذه الطبيعة، فمنذ وصولي برلين حلّت المدينة مكان الطبيعة، لكن الأرض ظلّت في وجداني فتحوّلت إلى وجه أو رأس".

لا ندري بالفعل ما كان في ذهن الفنان، هل ساق هذه المبررات عن قناعة، أي ما قام به من عمل كان تحت تأثير هذه الأفكار أم أن تحرّراً كان ينشده من التشخيص؟ نستطيع أن نتقبّل أي تفسير يسوقه الفنان أو الناقد طالما أن الأمر يتعلّق بعمل فني إبداعي يحتمل الوجوه العديدة وربما المزاجية، لا تجربة علمية في مجال الكيمياء على سبيل المثال!

على النقيض كان نذير إسماعيل يرسم صورَ من لا صور لهم أو لشخصيات غير محددة أو موجودة. وسننهج الطريقة ذاتها التي يقارب بها النقّاد أعمال مروان لنقول هنا إن نذير كان يرسم أصدقاءه ورفاق الحي وجيرانه، الناس الذين يحتكّ بهم خلال حياته اليومية ووجوه أبطال القصص التي كان يسمعها.عمل لـ نذير إسماعيل

صور أناس لا يعرفهم، من ورق في خفّتها ومن ماء في شفافيتها، وجوه ملونة لكنها بلا مساحيق، شخصيات هشّة في كثير من الأحيان. وجوه تستطيع الطيران لأنها تعرف أين ستحطّ، أنها عندما تسقط ستسقط حيث تنتظرها الألفة. وجوه بعدد سكان المدينة الذين مرّوا بقربه، المئات لو أحصيناهم واحداً واحداً. وكل واحد يروي قصته بواسطة تعابير وجهه، فهذا رجل يعيش قصة حزينة وذلك وجه لشاب يعيش قصة مفرحة وهذا وجه لشاب يعمل في الفرن ويتخيّل وجه حبيبته في وعاء الآلة المعدنية الفضّية اللون وهو يسحب العجين منه.

قرأت مرّة أن نذيراً لم يرَ وجه أبيه إلا من خلال صورة قديمة، فقلت ربما راح هذا الفنان يصوّر وجوهاً ليتساوى الجميع في الذكرى. ولكن، بعيداً عن هذا التفسير "الشاعري" إن صحّ التعبير، يمكننا القول إن لوحة هذا الفنان بتكوينها وبنائها متطوّرة بشكل من الأشكال عن لوحة معلّمه فاتح المدرّس (1922-1999) والتي تسكنها الوجوه في كثير من الأحيان وتكون عمادها تشكيلياً. وهذا ليس بغريب طالما أن هذا الفنان العصامي كان قد اكتفى من التحصيل العلمي في مجال الفن من نصائح أسداها إليه المدرّس، كانت بالنسبة إليه تأهيلاً أو برنامج عمل.

بعيداً عن التقييم الفني أو المقارنة التي ستذهب حتماً لصالح مروان، فإن لشخص نذير ولفطرية عمله الفني قيمة روحية أعلى لدى المتابع المحلي. أتحيّز لوجهه الذي يشبه الوجوه التي تمرّ في شوارع الشام، لوّحتها الشمس بحق كما يقول التعبير الذي تتناقله الألسن.


* فنان تشكيلي سوري

المساهمون