ياسر صافي.. إعادة تركيب الموت السوري

07 مارس 2018
ياسر صافي/ سورية
+ الخط -
يقدّم الفنان التشكيلي السوري ياسر صافي (الحسكة، 1976) في معرضه المستمر في "غاليري أوروبيا" الباريسي حتى الثالث والعشرين من الشهر الحالي، مجموعة من أعماله الأخيرة المنجزة بعد سنة 2015، (11 عملاً بين حفر وتصوير). يلحظ المتابع لتجربة صافي إصراراً على استكمال مشروعه الفني الذي صار خلال السنوات الأخيرة أشبه بأسلوب خاص يميّزه عن مجايليه في الحركة التشكيلية السورية.

منذ تخرّجه من كلية الفنون الجميلة من "قسم الحفر" عام 1997، بدأ يُعرف صافي بأعماله الحفرية بالأبيض والأسود والعمل على ما بينهما من مساحات لونية، وإن استخدم التلوين في أعمال حفرية معدودة. مع مرور السنين، تابع صافي اشتغاله بالحفر وذهب إلى التصوير بطاقة هائلة وبرغبة كبيرة في التجريب بحثاً عن هوية فنية خاصة، وهو ما لا تخفيه أعماله التي يتسيّدها توازن لوني يصعب تحديد آباء شرعيين له في التجربة التشكيلية السورية.

هكذا، أفصحت لوحته عن رغبة صريحة بالانعتاق من المفاهيم اللونية المعتادة، فامتاز اللون عنده بجرأة كبيرة، خصوصاً مع تواجده ضمن مناخ عام يشكل اللعب مركز الانطلاق نحو استقبال العمل ومن ثم محاولة قراءته.

يمكن ملاحظة تبدّلات عديدة أصابت شخوص الفنان مع تنقلاته الجغرافية، من دمشق ومن ثم إقامته في بيروت وأخيراً في برلين، فبدت شخوصه في أعمال معرضه الأخير مسكونة بطاقة داخلية أكبر وإن كانت أقل ميلاً للحركة، كذلك أظهرت انسجاماً أكبر مع تشكيلاتها ومع الفضاء الذي تشغله داخل كل بعد من أبعاد اللوحة.

تبدو كائنات صافي وكأنها تسبح في فضاء تختلف فيه قوانين الجاذبية، خاصية نجدها بشكل أكبر في أعماله المنجزة عقب انطلاق الثورة السورية، وكأنها شخوص تنتمي لعالم فقد قوانينه، أي فقد عقله في زمن صار الجسد هدفاً مستباحاً للبراميل والصواريخ والأسلحة الكيميائية والتهجير. أخذت مفردات الحدث السوري مكانها مبكراً في لوحات صافي خاصة مع التواتر الفظيع لصور موت السوريين، فصار البرميل والمسدس والجنرال والتابوت مفاتيح لقراءة الدراما المتشكلة في قلب اللوحة.

في ذات السياق السابق، أصابت شخوص صافي بعد الانفجار السوري تشوهات بفعل الموت اليومي المستمر والمنقول على شاشات التلفزة، فنادراً ما يغيب عضو مبتور أو رأس مقطوع عن متن لوحته. تتسم اللوحة عنده بقدرتها التحريضية على إعادة التركيب، فلا تقودك في طريق تخييلية واحدة. بل على العكس تماماً تنفتح اللوحة على قراءات متعددة اعتماداً على منظور الرائي، وهذا ما يمكنه من إعادة تركيب اللوحة كيفما يشاء، ومن هنا غالباً تحضر مركزية اللعب في اشتغالات صافي، فيكفي تبديل تموضعات عناصرها أو القيام بتدوير محاورها، اعتماداً على المخزون البصري من الفظاعة، لنكتشف سريعاً أن تموضعها الحالي ليس إلا قطعة فنية تطرح الأسئلة عن ذاك الجحيم الذي بات يحتل المخيلة.
المساهمون