أمجد ناصر في وهج الأعماق

31 أكتوبر 2019
(1955 - 2019)
+ الخط -

"لتتلّطفِ الأكفُّ وهي تدفعنا بين الأعمدة
قانطينَ من الوصول إلى الثمرة المضاءةِ
بوهج الأعماق"

لعلّ أمجد ناصر، الشاعر أولاً وأخيراً، كانَ يلخّصُ فلفسة المتصوّفة المسلمين وهو يبدع نص "معراج العاشق" باقتدار وبقدر، حيثُ هو الأن في "وهج الأعماق"، عاشقٌ وحرٌّ، كما يحلو لهولاء الفلاسفة.

سقطَ خبرُ وفاة الشاعر سقطة الحسرة على قلوبِ محبّيه. لم أعرفهُ عن قرب، ولم أقابله، رغمَّ أننا تواعدنا على ذلك عبر الرسائل أثناء ترجتمي لبعضِ قصائدة. بدا لي، من الرسائل القليلة بيننا، شخصاً دمثاً ومتعاوناً وسهل الوصول إلى القلب. قرأت قصائدة ورواياتهُ ومقالاته ووجدتُ فيها ومضات أصالةٍ ومعرفةٍ عن تجربةٍ، وإرادة مذهلة حقاً. نشرَ قصائد لي وحرّرها بصورة تُخَلِصُها من الإفراط بالاعتناء الجرس الموسيقى للشعر، وبهذا أنا فخورٌ بجهده معي، بالرغم من أن الحظ لم يسعفنا باللقاء. حزينٌ أنا الآن على أمجد الذي نصحني بمواصلة الكتابة والترجمة وبالتطوّر في كليهما نحو الصفاءِ الحسّي والدقّة اللغوية.

في حياة هذا الرجل الذي يتنقّل من جنسٍ أدبي لآخر بحرفيّة واجتهادٍ لافت ما يثيرُ الإعجاب على أكثر من صعيد. ثمَّ هناك حدسهُ الإنساني والسياسي العاليان. لا يقبل الظلم ولا الفساد، فانحازَ لفلسطين ثورةً ومعنى من وقتٍ مبكرٍ في حياته، وكتبَ ضدَّ طغاة عرب حرقوا أكباداً وآتوا على أرواحِ كثيرٍ من الناسِ الأبرياء بقمعٍ لامتناهٍ وبعنادٍ متخلّف.

بدايات أمجد في بيئة الصحراء الأردنية ثمَّ عمّان في براعمها المدنيَّة الحديثة نسبياً، فبيروت بثورتها وعبثيةِ حربها الأهلية، فقبرص ثمَّ لندن الخضرة والظلام، ثم العودة إلى الأردن، كلُّ هذه، وغيرها من الأسفار، أضفت على كتابات هذا المسافر، حقيقةً ومجازاً، عمقاً وجمالاً نادراً في البيئات العربية المتقوقعة، والقليلة التجربة خارج نطاق بيئتها بشكلٍ عام.

"متوّجٌ بخفتِّي
عرشي على الهواء
مسنودٌ بحرقة الأنفاس".

الصعود، من صعود الجبل، إلى مجاورة النجوم، فكتابة كلام الحجارة والصخور وما ينتأُ منها من نباتٍ، هذه معاريجُ حلّ بها أمجد. هو الذي لم يكفّ عن تأويلِ الماضي ليجدّدَ الحاضر، وعن الوقوفِ عندَ حوافِ الأشياء ليراها برهافة الأنفاس الأخيرة، ودقة الكلمات التي تلتقي بدلالات كانت تنتظرُ من يصنعها بحرفيّة الشاعر المجتهد.

اللغةُ دائماً في حالة انتظار، وهنيئاً لأمجد أنّه ظفر بمحطّات عليا منها، ووصلها مرّاتٍ ومرّات بقصائدة مُحكمة النظم، ومقالات وضّاءة الفكر، وروايات وكتابات أسفارٍ حافلة بالغناء والاستكشافِ وحدّةِ النظر ونفاذ البصيرة.

وداعاً لكَ جسداً، ولكن لا وداعَ لإرثٍ محفوظٍ من الكلمات التي تُطمئنُ الروح والذاكرة وتضئُ دروب كثيرين في أسفارهم، كثيرون سيحبونكَ أيها الباقي فينا الآن.


* ناقد وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن

المساهمون