شعر الانتفاضات إلى الإيطالية: على وقع الجيوسياسة أو أبعد

28 مارس 2019
(عمل نحتي لـ جيسون ديكيري تايلور)
+ الخط -

صدرت، قبل أشهر، عن دار "لو مونيي ـ موندادوري" الإيطالية مختارات من الشعر العربي نقلتها إلى اللغة الإيطالية مجموعة من المترجمين والباحثين في الأدب العربي المعاصر، وأشرف عليها كل من الأساتذة أوريانا كابيتزيو، وإيلينا كيتي، وسيموني سيبيليو، وفرانتشيسكا م. كوراو. سلّط هؤلاء الضوء، في مقالات نقدية صدّروا بها العمل، على التوجّهات الأبرز في القصيدة العربية خلال السنوات الأخيرة من ناحية الأسلوب والمواضيع المشتغل عليها. وضمّت الأنطولوجيا ستّاً وأربعين قصيدة منشورة وغير منشورة لأصوات شعرية عربية مكرّسة وأخرى من الجيل الجديد، وتضمّنت ملحقاً للنصوص الأصلية، أُرفقت ترجماتها بملخّص لسيَر أصحابها.

وبالرغم من تأكيد الباحث في الأدب العربي في "جامعة كا فوسكاري فينيزيا"، سيموني سيبيليو، في مقالته النقدية التي تضمّنتها الأنطولوجيا، "الفضاءات والأمكنة في المتخيّل الشعري العربي الجديد"، على تنوُّع النتاج الشعري العربي بعد 2011، والذي بقي جزء كبير منه بعيداً عن الإملاءات السياسية والأيديولوجية للمرحلة، فقد استُثني من الأنطولوجيا التي اختير لها عنوان "في الحرب لا تبحثوا عنّي"، الشعراء العرب الذين لم تعش بلدانهم حروباً في الفترة الأخيرة، واقتصرت الأعمال المترجَمة على شعراء رافقت قصائدهم الأحداث الدامية المندلعة في بلدانهم بين 2010 و2018؛ حيث كان الموضوع الأساسي لقصائدهم هو الحرب.

فهل هو دليل على أن الشاعر العربي لا يكون مثيراً للاهتمام في الأوساط الغربية إلا إذا كتب عن الحرب؟ وهل إعطاء الأولوية دوماً للموضوع عندما يتعلّق الأمر بترجمة الشعر العربي يوحي بأن القيمة الفنية للأعمال المختارة تأتي في الدرجة الثانية؟

عن هذا التساؤل، أجاب الفريق المشرف على العمل بأنه توجد بالفعل إصدارات شعرية عربية مترجمة إلى الإيطالية يمكن وضعها في هذا الإطار، إلّا أن ذلك - بحسب سيبيليو - ينسحب على كافة الآداب الأجنبية المترجمة، ولا ينطبق فقط على الأدب العربي، وهو حال الكثير من أدباء أفريقيا وأميركا الجنوبية أيضاً، والذين تُترجَم أعمالهم وتُنشر من باب الاهتمام بقضاياهم الوطنية أكثر من الاهتمام الجمالي والفنّي بكتاباتهم. لكن هذا يندرج ضمن موضوع أكبر يقودنا إلى الحديث عن علاقات القوى بين الغرب والثقافات "الأخرى".

وعمّا إذا كان خيار ثيمة الحرب، والذي يظهر في العتبة الأولى للكتاب، من شأنه أن يخدم التوجُّه السائد في وسائل الإعلام الغربية التي تحاول تصوير المنطقة على أنها صانعة للحرب والموت والدمار فحسب، يقول المشرفون عن العمل إن العنوان الذي اختير للأنطولوجيا (وهو بيت شعري مأخوذ من إحدى القصائد المترجمة للشاعر السوري مروان علي) قد فرض نفسه، لكونه يعكس مضمون المؤلَف على نحو تام؛ فهو من ناحية يعبّر من دون أي لبس عن موقف لا قتالي لإنسانية ملحّة، ومن ناحية أخرى يعيد إذكاء الطرح حول قدرة الفن الشعري بوصفه فضاءً للإبداع الجمالي، يعبّر من خلاله الشاعر عن توقه للنهوض من تحت ركام الحرب.

بحسب المشرفين عليه، يرمي العمل إلى تجاوز الصورة الحالكة التي بدأت تروَّج عن العالم العربي منذ أحداث سبتمبر 2001 في وسائل الإعلام الغربية وترسّخت مع انتفاضات وثورات 2011، بوصفه رقعةً جغرافية مسكونة بالإرهاب والحروب. ذلك أنه، وبالرغم من الدمار والثورات المضادة التي عرفها، والحروب التي اندلعت في مناطق متفرّقة منه وما رافقها من سقوط مدوّ للكثير من الآمال والأحلام، ليحل محلّها الإحباط والخيبة، إلّا أن الثقافة العربية بقيت حيّة وحيوية، ومنفتحة، وحيث إن المشهد الشعري العربي في الوقت الحالي يُعتَبر أكثر تنوّعاً وإيحاءً من أي وقت مضى.

في مقالته المنشورة ضمن الأنطولوجيا، يشير سيبيليو إلى الأثر الكبير الذي تركه الشعراء، الذين اختاروا اللجوء مؤخّراً إلى دول أجنبية جرّاء الحروب، على الساحة الثقافية العربية والدولية، حيث ساعد قرب هؤلاء من الدوائر الثقافية للبلدان المضيفة ووجودهم الدائم في المهرجانات الدولية ومشاركتهم في النقاشات العامة، بالإضافة إلى استخدام وسائل التواصل الحديثة، على "تجديد" الثقافة الأدبية في العالم العربي. ولم يتردد سيبيليو في وصف الشعراء الذين غادروا أوطانهم جرّاء الحرب، بـ"شعراء مهجر الألفية الجديدة".

من جهة أخرى، بدا لافتاً في هذه المختارات إدراج قصيدة باللغة الإنكليزية للشاعر الليبي المقيم في الولايات المتحدة، خالد مطاوع، جرت ترجمتها إلى الإيطالية مباشرةً من الأصل الإنكليزي، بالإضافة إلى الاعتماد على التقسيم الجيوسياسي لشعراء الأنطولوجيا: المشرق، مصر، المغرب العربي، العراق ومنطقة الخليج. فهل هذا مؤشّر على أن القضية الفلسطينية قد فقدت صبغتها المركزية بين القضايا العربية، وتحوّلت إلى أزمة سياسية لا تختلف عن بقية أزمات "الربيع العربي"؟

عن هذا يقول المشرفون على الأنطولوجيا إنهم لم يقصدوا وضع القضية الفلسطينية في نفس المرتبة مع بقية القضايا في العمل، "بل ولا معنى لفعل ذلك من أساسه". إلا أنه من الناحية الأدبية لم يكن هناك داعٍ لتمييز الشعر الفلسطيني لدواعي البعد "الاستثنائي" للقضية أو "عدم قابليتها للمقارنة" بغيرها. ذلك أنه لا وجود لـ"مقياس مآسٍ" يمكن أن يحدّد أيَّ الفواجع هو أعظم وطأة، فنتناسى بذلك أن الشعر يتسامى عن كل هذه الاختلافات، والدليل مقاسمة شعراء فلسطينيين كثر من خلال قصائدهم ضمن هذه الأنطولوجيا معاناة غيرهم.

لكن، "هل ينبغي للشعراء الفلسطينيين أن يهتمّوا بشؤون أرضهم فحسب؟"، هكذا تساءل المشرفون على العمل، والذين ذهبوا للتأكيد على أن "معركة الفلسطينيين في سبيل نيل حقوقهم، وتحقيق العدالة والحرية ضد القمع الإسرائيلي، وبعيداً عن الاختلافات التاريخية والجيوسياسية القائمة، لا تختلف على المستوى المثالي من التطلّعات عن معركة المصريين، والسوريين والعراقيين والليبيين الذين خرجوا للساحات من أجل تحرير أوطانهم من الأنظمة الدكتاتورية الفاسدة". في المقابل، شدّد سيبيليو في مقالته النقدية المذكورة على أن "مكانة فلسطين في الشعر العربي للألفية الجديدة، بقيت مكرّسة كفضاء للأسطورة، الذاكرة، والتوق نحو الانعتاق".

يُذكَر أن الأنطولوجيا التي بدأت بتمهيد من الشاعر الإيطالي البارز فاليريو ماغريلي، تضمّنت ثلاث مقالات نقدية أخرى نافذة لـ فرانتشيسكا م. كوراو أستاذة اللغة والثقافة العربيتَين في قسم العلوم السياسية بجامعة روما، بعنوان "نظرة تاريخية على الشعر العربي المعاصر" و"أشكال القصيدة وأصوات الحاضر" لـ أوريانا كوباتزيو، أستاذة الأدب العربي في جامعة نابولي، و"إنسانية تقاوم، بين عواء ذئب وأشواك قنفذ" لـ إلينا كيتي، الأستاذة في قسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة استوكهولم.

ختاماً، يُشار إلى أن الأنطولوجيا حملت عنواناً فرعياً هو "شعرٌ للثورات العربية أو أبعد"؛ في استحضار قصيدة محمود درويش "كزهر اللوز أو أبعد". وعلى أمل أن يستحيل الشعر العربي المعاصر إلى "موسوعة أزهار" لا موسوعات حروب، تبقى الترجمة المحكمة إلى الإيطالية لهذه المختارات الشعرية مرجعاً هامّاً للباحثين والدارسين للأدب العربي المعاصر والترجمة.

المساهمون