منذ سنة، رحل المفكّر الاقتصادي المصري سمير أمين (1931 - 2018)، وقد دارت نقاشات عدة عن استيعاب الثقافة العربية لأفكاره التي ضمّنها مؤلفات كان معظمها باللغة الفرنسية، وهو ما يدعو إلى الإسراع بنقل مجمل بحوثه دون أن يخفى أن صعوبات تلقّي أمين لا تتعلق بإشكالية اللغة وحدها.
يأتي إصدار "نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية" ضمن هذا الهاجس، وهو كتاب لأمين ينتمي إلى أعماله الأخيرة ترجمه الباحث المصري مجدي عبد الهادي وصدر عن منشورات "صفصافة".
عن كتابات الفترة الأخيرة من أعمال سمير أمين يقول عبد الهادي في حديث إلى "العربي الجديد": "أعتقد أنه قد غلب على كتابات هذه الفترة، أكثر مما سبق، خطّان رئيسيان: الأول "نظري" يتعلّق بالتأكيد على عجز ولا علمية النموذج الاقتصادي النيوكلاسيكي، كاقتصاد أيديولوجي تبريري يعزّز الاغتراب والتعمية النظرية والعملية، بتجاهله الطابع الاجتماعي والتاريخي لعلم الاقتصاد، مع التأكيد في المقابل على راهنية فكر ماركس وانفتاح الماركسية على التجديد والتطوير المستمر كـ"صندوق أدوات" و"دليل عمل" وجهاز فكري ينطلق في فهم الواقع من الواقع المتجدد نفسه، والثاني "تطبيقي"، مصداقاً لما سبق، يتصل بتطوير التحليل الماركسي للرأسمالية المتأخرة والنظام العالمي وإشكالات التنمية وشعوب العالم الثالث وثوراتها في سياقه، فضلاً عن استكشاف سبل تجاوز كل ما سبق نحو اشتراكية جديدة وتنمية فعّالة، بدلاً من "الرأسمالية المتهالكة" و"التنمية المُعتّلة" كما وصفها في كتاباته".
يضيف: "لا عجب أن نجد الخطين متضافرين في معظم أعماله الأخيرة، وأحياناً باندماج كامل داخل العمل الواحد، فيبدأ مثلاً كتابه في انهيار الرأسمالية، بمناقشة سماتها الاحتكارية المُعممة حديثاً، لينتهي بمناقشة الاشتراكية البديلة، ويناقش في الاقتصاد السياسي للتنمية، قضيتي التنمية والعولمة في سياق تلك التطورات الرأسمالية الأخيرة، وفي ثورة مصر يناقش الرأسمالية التاريخية وإدارتها لصراعاتها وكيف تتعامل مع أطرافها، وفي نقده لروح العصر، يبدأ من أزمة الرأسمالية، ليعرج على التاريخ الاجتماعي وقانون القيمة، وينتهي بنقد شعوذة الاقتصاد الصرف، ناسجاً كل ذلك بخيوط من ماركس وبنات أفكاره وزملائه في مدرستي التبعية والنظم العالمية، بالتفاعل مع مُستجدات الواقع وتحديات الفكر، ومُتنقلاً بمرونة بين النظري والتطبيقي في وحدة جدلية واحدة. وربما لم يمهل الزمن الشخصي والسياق التاريخي الرجل لاستكمال هكذا مشروع ضخم، لكن تمثّل هذه الكتابات نقاط انطلاق لكل مهموم بهذه القضايا، خصوصاً مع ما نشهده من ركود فكري وعملي لليسار المحلي والعالمي".
يتكوّن الكتاب من ثلاثة مقالات رئيسية، هى على الترتيب: مقال حول نظامي القيمة الاجتماعية والسعر-الدخل في الاقتصادين الماركسي والنيوكلاسيكي، ومقال عن الفائض في الرأسمالية الاحتكارية والريع الإمبريالي، وأخيراً مقال عن العمل المجرد وجدول الأجور.
ويتناول أولها، أطولها وأكثر تأسيسية، الخلل المنهجي والطابع الاغترابي والتبريري لنظام السعر-الدخل الخاص بالاقتصاد النيوكلاسيكي السائد، وكيف يتجاوزه نظام القيمة الاجتماعية والمادية التاريخية الخاص بماركس، بطابعه التاريخي والنقدي، الذي يتجاوز بشموليته العقلانية الربحية ضيقة الأفق للرأسماليين، إلى عقلانية اجتماعية رحبة تستوعب المصالح الأوسع والأعم لكامل المجتمع، كما يقدم تأريخاً سريعاً للرأسمالية من تنافسية القرن التاسع عشر إلى احتكارية القرن العشرين، فالاحتكارية المُعممة للقرن الحادي والعشرين، ويعرّج سريعاً ضمن هذا التأريخ العام، على عدة مفاهيم أساسية في التحليل الماركسي، مثل إنتاجية العمل الاجتماعي ومشكلة التحويل، والعمل المُجرد والحي والميت، والاتجاه التاريخي لمعدل الربح وريع الأرض والفائدة النقدية والعولمة غير المتكافئة والأمولة وسلطة رأس المال، وآثارها السلبية على الحياة والبيئة.
أما المقالان الثاني والثالث، فناقش فيهما سريعاً الفائض الاجتماعي ومشكلات قياسه وتوزيعه محلياً وعالمياً، والتورّمات الخدماتية الطفيلية الناتجة عن المعالجة الرأسمالية المعتلّة لذلك الفائض، والمفاهيم المختلفة للعمل، بسيطه ومعقده، وفائض القيمة إنتاجاً واستهلاكاً، وكيف تفسّر جميعها تفاوتات الأجور بما تتضمّنه من تفاوتات من معدلات الاستغلال.
عن ترجمات سمير أمين السابقة إلى العربية، يقول عبد الهادي: "أجدها ترجمات جيدة بشكل عام، رغم صعوبة إصدار حكم شامل في هذا الشأن مع كمّ أعمال بهذه الغزارة والتنوّع، لكني أستطيع الحكم بجودتها عموماً، مما اطلعت عليه منها، مع معرفتي بنتاجات وخلفيات بعض مترجميه، مثل مصطفى مجدي الجمّال وسعد الطويل، ممن يُعتبرون أساتذًة في المجال، فضلاً عن اتصالهم الشخصي به ومعرفتهم العميقة بفكره، بما لذلك من فوائد وتيسيرات في تدقيق الترجمة؛ بالرجوع لصاحب النص نفسه حال غموض أي فكرة أو التباس أي عبارة".
يضيف: "لا يمنع هذا بالطبع وجود هنّات طبيعية ومعتادة في بعض ما رأيت من ترجمات أخرى، خاصًة عندما يتعلّق الأمر بالمُستجدات الاصطلاحية والتفصيلات التقنية التي يجتهد المترجم في نقلها بدرجات متفاوتة التوفيق، وهى مشكلة عامة في أغلب ما يُترجم للعربية في الحقول العلمية خصوصاً؛ نتيجة لضعف مساهمة الأكاديميين المتخصصين فيها، المُفترض كونهم المسؤولين عن نقل أحدث المعارف في مجالاتهم للغاتهم؛ ما يترك المترجمون وحدهم في مواجهة هذه المشكلة، ويحضرني في هذا المجال مثال طريف إلى حد ما، ووثيق الصلة بكتابنا الحالي: عندما كنت أعيد قراءة بعض الأعمال المتصلة به كقراءات تحضيرية للترجمة، حيث وجدت المترجم، في كتاب منشور أوائل الثمانينات، قد ترجم مصطلح "مشكلة التحويل" Transformation Problem، بـ "مشكلة الاستحالة"، ما كان صياغًة ملتبسة وغير مُوفقة؛ كون أول ما يرد لذهن القاري، خاصًة غير المتخصص أو غير المُطلع على المفهوم مُسبقاً، هو أن المقصود Impossibility، وهو معنى غير ذي صلة بموضوع النقاش، وقد يحيل البعض الأقل لإشكالات أخرى في الاقتصاد".
هناك دائماً حديث عن صعوبة ترجمة الكتب الاقتصادية إلى العربية، يقول عبد الهادي عن ذلك: "صحيح، وهو ما يرجع لأكثر من سبب، فأولاً هناك تخلّف واضح في الفكر الاقتصادي العربي عن مواكبة الفكر الاقتصادي العالمي؛ فنحن تقريباً قد توقّفنا عند نتاجات وأدبيات الثمانينيات والتسعينيات؛ ما أضعف معرفة المترجمين بموضوعهم، خاصة غير المتخصصين منهم. ثانياً، ما يعانيه الفكر الاقتصادي العربي من مدرسية ومركزية شديدتين، يمينه ويساره على السواء؛ بشكل أضعف معرفته بالاتجاهات والتيارات الحديثة وما أنتجته من معرفة ومفاهيم، خصوصاً مع علم إشكالي تعتريه صراعات عنيفة كعلم الاقتصاد، تكاد تنقسم فيه الاتجاهات الرئيسية لعوالم مختلفة، فلدينا اقتصاد كلاسيكي واقتصاد نيوكلاسيكي متفقان أيديولوجياً، لكنهما متفارقين مفاهيمياً وتحليلياً، واقتصاد ماركسي يخالفهما أيديولوجياً ويتقاطع تحليلياً مع الكلاسيكي منهما، لكن تكاد تكون له لغته الخاصة، التي تجد أرتالاً كاملة من الاقتصاديين الأكاديميين والمتخصصين يكادون لا يفقهون لها قولاً؛ كونهم بعيدون كل البعد عن الاطلاع على الأدبيات الماركسية، ناهيك عن فهمها جدياً".
يضيف عبد الهادي سبباً ثالثاً، وهو "ما يتعلّق بإشكالات علم الاقتصاد نفسه كعلم وليد، ككل العلوم الاجتماعية تقريباً، حيث يعجّ بالاختلافات حول أبسط مفاهيمه واصطلاحاته، ما يعقّد مهمة مترجميه، خاصًة إذا تصدّوا لأعمال نظرية وتحليلية، لا مجرد أعمال صحافية وشعبية محدودة القيمة مما تحبّه أغلب دور النشر العربية، للأسف".
يقودنا هذا الحديث إلى التساؤل عن وضع فكر سمير أمين في الثقافة العربية اليوم، واستفادتها منه سياسياً واقتصادياً ومعرفياً. يرى المترجم أنه "ربما لم تصل كافة أعمال أمين، لكن وصل الأساسي منها، خصوصاً أن أي مفكر، في أغلب الأحوال، يضع الأسس الكبرى لفكره في المراحل المبكرة والكتابات الأولى من حياته، وما يأتي لاحقاً يكون في اتجاه مزيد من التدقيق أو التعديل في بعض التفاصيل، أو التوسّع في تشعّبات بعض الأفكار والموضوعات، أو التطبيق ضمن نطاقات أخرى وعلى وقائع مُستجدة، ما له أهميته مع ذلك ويفرض علينا الاستمرار في نقل ما بقي منها للعربية بالتأكيد".
يشير عبد الهادي أيضاً إلى أن أمين نفسه "كان حريصاً حتى آخر أيام حياته على الارتباط شخصياً وفكرياً ببلده وهموم منطقته العربية، حتى مع انتمائه العام للجنوب العالمي، لا تشهد على ذلك كتاباته وحدها واهتمامه بوصولها بالعربية لجمهوره الأول، بل ما هو أكثر، وهو انتماؤه الشخصي لمركز البحوث العربية والأفريقية وحزب التحالف الشعبي الاشتراكي المصري، ومساهماته الشخصية في فعالياتهما البحثية والسياسية والتنظيمية، ما كان يمكنه غضّ الطرف عنه كمفكر عالمي تجاوز الالتزامات البحثية والإدارية التقليدية والانتماءات الحزبية الضيقة، إذن كان حريصاً على التواصل المستمر مع رفاقه العرب شخصياً وتنظيمياً، وأيضاً فكرياً وعلمياً".
يتابع قائلاً: "لكن أمين على مكانته الدولية، يظل مفكر هامش ثوري، ما يجعل السلطات البرجوازية التابعة لا تطمئن له ولا لنتاجاته، خصوصاً سلطات تلك الدول الأكثر تبعية في العالم في زمن صعود اليمين العالمي، فلا تستفيد حتى مما قد تشمله إسهاماته من لمحات اقتصادية ونصائح تنموية عامة تتطلّب منها تغييرات ثورية لا تريدها".