يُعيد المعرض الفني الذي أُقيم في "معهد كلارك" في وليامزتاون، في ولاية ماساتشوستس الأميركية منذ أواخر العام الماضي وكان مزمعاً أن يستمر حتى يوم غدٍ الإثنين (توقف بسبب وباء كورونا)، التذكير بالتأثير الذي كان للزخرفة العربية وما زال على الفن الغربي، ليس في مجال الفن التشكيلي فقط، بل وفي مجالات الموسيقى والأدب والرقص.
يحمل المعرض عنوان "أرابِسك" وهي كلمة فرنسية مستمدة من الإيطالية "آرابسكو"، أي الزخرفة العربية بفصيح العبارة أو فن الرقش، وهو الاسم العربي القديم الذي كان ينبهنا الفنان كمال بُلاطه إلى ضرورة استعماله في العربية عوضاً عن تسمية "أرابِسك" الشائعة. هذا الشكل الفني ذو المنابع القديمة، الذي ظهر لأول مرة في الثقافات الإسلامية بشكله الذي نعرفه على امتداد خريطة تمتد من وسط آسيا شرقاً وحتى جنوبي أوروبا غرباً، لم تفلت حركة فنية أوروبية حديثة من تأثيره منذ ما يُسمى عصر النهضة (عصر الانبعاث إذا إردنا الدقة في الترجمة)، مروراً بفن الروكوكو الفاره بزخارفه وتركيزه على الشكل، وصولاً إلى حركة الفن الجديد، وما تلاها.
ومن الملاحظ أن هذا الأسلوب في الرسم والخط، وهو يبني جسوراً بين أكثر من ثقافة، لم يستقر على شكل أو أسلوب واحد، بل كان منفتحاً على ممكنات جمالية وفّرت للفنانين الخروج على حدود الأغراض التزيينية إلى مبدأ التصميم الشامل.
يتتبع هذا المعرض الذي جمع لأول مرّة في مكان واحد بين أعمال فنية بوسائط متنوعة مستعارة من عدد من المتاحف والمجموعات الخاصة، تطوّر تأثير فن الزخرفة العربية وانتشاره الواسع في القرن التاسع عشر في عالم الفن الغربي وفي عدة فروع فنية. وتكشف معروضاته أن هذه الزخرفة المميزة منذ النظرة الأولى كانت حتى العام 1800 تدخل كإضافة لتزيين موضوع التصميم المركزي الأكبر، إلا أنّ هذا بدأ يتغير مع الفنانين الألمان الرومانسيين من أمثال فيليب أوتو غونا (1777 - 1810)، وبيتر فون كونيليوس (1783 - 1867)، وأويجن نابليون نويغويتا (1806 - 1888)، وكلهم استمد إلهامه من العالم الأدبي، ووسعوا استخدام الزخرفة العربية، وأخرجوها من الإطار التقليدي لتصبح مهيمنة على تكوين العمل الفني كله.
في البداية لم يكن لدى الفنانين سوى وعي ضئيل بأصوله خارج أوروبا، إلا أن الفنانين والمصممين تحت تأثير وعي تاريخي جديد اندفعوا إلى فهم جذور هذا الأسلوب الزخرفي والأساليب الأُخرى في مختلف الأزمنة والأمكنة.
وأبرز الشخصيات التي ساهمت في توثيق تاريخ ومنابع قيم الزخرفة العربية كان المعماري والكاتب البريطاني أوين جونز (1809 - 1874) صاحب كتابَي "قصور الحمراء" و"نحو الزخرفة وأصولها" المزودَين برسوم إيضاحية من إعداده. فبعد نشرهما أصبحا مرجعَين أساسين للفنانين. وكان لرسومه التي وضعها بناءً على زياراته ومشاهداته في قصور الحمراء في غرناطة الأندلس أثر في انتشار وشهرة الأثاث "الشرقي" ولوازمه في بيوت الغربيين. بل وأصبحت مواد قابلة للنقل مثل مصابيح المساجد تحفاً مطلوبة بسبب أشكالها ونقوشها المميزة. واهتم بتجميع المصابيح الفرنسي جوزيف بروكارد (1831 - 1896) وأقام لها متجرَ تحف في باريس، وزاد على ذلك بأن تعلّم تقانة صناعتها.
وولّدت هذه المقاربة نتائج عجيبة واستثنائية بالنسبة إلى العقلية الغربية، أكثرها لفتاً للنظر الرسوم التخطيطية للبريطاني آبري بيردسلي (1872 - 1898) وخاصة رسومه لمسرحية سالومي لأوسكار وايلد التي نطقت بتأثير أسلوب الزخرفة العربية عليه، مضافاً إليها تأثره بفن شرقي آخر هو رسوم الطباعة اليابانية، مما جعل رسومه ذات مستوى زخرفي خالص ندر أن ظهر مثيل له في الفن الغربي.
وظهر تأثير هذه المقاربة جلياً في أوساط مجموعة من الفنانين الفرنسيين اتخذوا لهم لقب "المتنبئين" بدأها الفنان بول سيروزيه بلوحته "الطلسم". ونشط هؤلاء بين العامين 1888 و1900، وكان منهم بيير بونار وموريس دينس وإدوارد فيلار، وكلهم شاركوا بول سيزان وجوجان في تصميمهم على تجديد فن الرسم عن طريق الالتفات نحو الشرق، مؤمنين في ضوء الحرية التي رأوا أن فن الزخرفة العربية يفتحها أمامهم، أنّ الفن ليس رسماً للطبيعة بل تركيب من مجازات ورموز يبتكرها الفنان.
ووصلت حركة هؤلاء ذروتها في تصميم الملصقات الروحية للفنان التشيكي ألفونس ماتشا (1860 - 1939) والفرنسي أونوريه دو تولوز لوتريك (1864 - 1901)، وفي رسم هذين للنساء تبدو واضحة القيم الزخرفية التجريدية سواء تجلت في تموّجات الشَّعر أو حركات الجسد كما في رسوم لوتريك لراقصة الكان الشهيرة جان آفريل، أو قطع الأثاث المحيطة بها.
وفي ما بعد سنجد أن فكرة الزخرفة الطاغية على تكوين اللوحة كلّه تتجلّى في أعمال الفنان الفرنسي ماتيس، وخاصة في لوحة "عازف البيانو" ولوحة "لاعبو الشطرنج"، بدءاً من السجادة الشرقية على أرضية الغرفة فورق الجدران، وصولاً إلى ملابس اللاعبين. وواصل الفنانون هذه المقاربة على الرغم مما قيل عن زوال وهم اليقين بوجود انسجام شامل أو وحدة روحية تمسك بزمام الوجود تتخطى المرئي إلى ما وراءه إثر سقوط الإمبراطورية العثمانية.
صحيح أن ما خلفته الحرب العالمية الأولى كان انصرافاً إلى حد ما عن الزخرفة العربية التي بدأ حضورها يتضاءل، إلا أن الفنانين، كما تظهر الأعمال المعروضة في معرض "معهد كلارك"، لم يتخلوا كلياً عنها، وهذا واضح في أعمال بابلو بيكاسو (1881 - 1973) وماكس إرنست (1891 - 1976).
ومن المتوقع كما أشار منظمو المعرض إلى أنه بسبب شخصية الزخرفة العربية المتحولة أو القابلة للتحول والتشكل، أن يستمر هذا التنوع إلى ما لا نهاية بوصف هذا الأسلوب الفني رمزاً لحرية المخيلة، ولها السبب يظل أسلوباً فريداً من نوعه.